المبحث الرابع
التحية عند دخول البيت
جاءت التحية عند دخول البيوت مطلقًا، كما في قوله تعالى: } فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {[النور: 61].
فهذه تحية شرعها الله لعباده المؤمنين، ومدحها، وجعلها مباركة لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة.
وقد جعلها الله طيبة؛ لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله تعالى.
وقوله تعالى: } بُيُوتًا { نكرة في سياق الشرط فتعمّ بيت الإنسان، وبيت غيره سواء كان في البيت ساكن أم لا([1]).
إذن، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت من غير فرق بين بيتٍ وبيتٍ، فيسلِّم المؤمنون بعضهم على بعض؛ لأنهم كالشخص الواحد من توادهم وتراحمهم وتعاطفهم([2]).
وفي معنى هذه الآية قوله r لأنس -رضي الله عنه-: «يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك»([3]).
وإذا كان السلام مشروعًا -سواء كان في البيت ساكن أو لا- فإن صيغة السلام معلومة وفيها أحاديث كثيرة -أعني السلام على الساكن في البيت- وأما إذا لم يكن في البيت أحدٌ فقد جاء عن عكرمة أنه قال: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»([4]).
وجاء عن ابن عمر في الرجل يدخل البيت أو المسجد ليس فيه أحد قال: يقول: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»([5]). وجاء عن مالك أيضًا مثل ذلك([6]).
هذا على أن الآية عامة، سواء كان في البيت ساكن أم لا.
وذهب بعض العلماء إلى أن معنى الآية: إذا دخلتم بيوتًا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم، فليسلم بعضكم على بعض.
أي: فسلَِّموا على من هم بمنزلة أنفسكم من المؤمنين؛ لأن المؤمنين كالنفس الواحدة، وعلى هذا المعنى فلا يسلَِّم الداخل إلا إذا كان في البيت أحدٌ([7]).
قلت: والأمر في هذا واسع، فإن عمل بهذا فلا حرج، وإن عمل بالأول فهو أولى لوروده عن بعض السلف. والله أعلم.
* * * *
المبحث الخامس
خلوّ آيات الاستئذان من النسخ
مما ينبغي التنبيه عليه في هذا الفصل: إحكام آيات الاستئذان كلها وخلوّها من النسخ، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
وإن كان بعض أهل العلم يقول إن قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا {[النور: 27].
حكم عام في جميع البيوت، ثم نسخ الله واستثنى منه بقوله تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ{[النور: 29].
وهذا القول مرويٌّ عن الحسن وعكرمة.
لكن الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول الجمهور: أن الآيتين محكمتان، وأن الآية الأولى في البيوت التي لها أرباب وسكان، والآية الأخرى في البيوت التي ليس لها أرباب يُعرفون ولا سكان، وهذا القول هو الراجح والله أعلم. وفيه جمعٌ بين الأدلة، والجمع مقدَّم على النسخ.
كما قال أبو جعفر النحاس -رحمه الله-: «والقول بأنهما محكمتان قول أكثر أهل التأويل»([8]).
وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: «آية لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن عليَّ»([9]).
وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: «لم يَصِرْ أحدٌ من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ»([10]).
فالذي عليه المحققون الجهابذة من أهل العلم: أن آيات الاستئذان ليس فيها نسخ البته، ومنهم القرطبي([11])، وابن القيم([12])، وابن الجوزي([13]) -رحمهم الله- وفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-.
* * * *