الفصل الثاني
أحكام الاستئذان في السنة المطهرة
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: حكم الاستئذان.
المبحث الثاني: صيغ الاستئذان.
المبحث الثالث: عدد مرات الاستئذان.
المبحث الرابع: الاستئذان على المحارم.
المبحث الخامس: هل السلام قبل الاستئذان أم بعده؟
المبحث السادس: الاطلاع على دار الغير بغير إذن، وما يترتب على ذلك.
المبحث السابع: هل رسول الرجل إلى الرجل إذنه؟
وإليك التفصيل في هذه المباحث:
* * * *
المبحث الأول
حكم الاستئذان
لقد اتفق العلماء على أن الاستئذان بنوعيه -العام والخاص- أدبٌ إسلامي كريم، له أهمية خاصة، ودورٌ متميز في صيانة حرمات البيوت.
ويدل على ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- صدَّر آيات الاستئذان بالنداء بوصف الإيمان، وهذا يعني أن الاستئذان من مقتضيات الإيمان.
قال النووي -رحمه الله-: أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروعٌ، وتظافرت به دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة. اﻫ([14]).
وأما حكم الاستئذان بنوعيه فقد ذكر بعض العلماء فيه خلافًا، حيث زعم بعضهم أن الاستئذان مستحب([15]) ولكن الذي يظهر من الأدلة أنه واجب بنوعيه، أي: العام والخاص.
قال ابن مفلح -رحمه الله-: «ولا وجه لحكاية الخلاف، فيجب في الجملة على غير زوجه وأمه». اﻫ([16]).
وأما الأدلة على وجوب الاستئذان فكثيرة نذكر منها:
أولاً: أدلة وجوب الاستئذان العام:
1- قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا {[النور: 27]؛ حيث إن } لَا{ ناهية ونهى عن ذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن([17]). فظاهر الآية يدل على تحريم دخول بيوت الغير بغير إذن؛ لأن النهي المتجرّد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح([18]).
2- قوله تعالى: } لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ {[النور: 29]. فهذا ترخيصٌ من الله للدخول في البيوت غير المسكونة التي فيها متاع الناس، فلما جاءت الرخصة في حالة انتفاء السكن الذي هو علة الوجوب بنص الآية- دلَّ على أن وجود هذه العلة -وهي السكن- يوجب الاستئذان، وإلا أشبه الغصب([19]).
3- قوله تعالى: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ {[النور: 29].
والمعنى: أن الله يعلم ما تظهرون وما تخفون، وهذا فيه وعيدٌ لمن لم يتأدب بآداب الله، في دخول بيوت الغير، ولا يكون الوعيد إلا على ترك واجب([20]).
4- قوله r: «الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع»([21]).
ثانيًا: أدلة وجوب الاستئذان الخاص:
1- قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ {[النور: 58]؛ حيث إن اللام في قوله: } لِيَسْتَأْذِنْكُمُ { للأمر، وظاهر الأمر يدل على الوجوب فيحمل عليه.
2- أن ستر العورة واجب بالاتفاق، وقد وصف الله هذه الأوقات الثلاثة بأنها عورات. فقال تعالى: } ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ {. فبين العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة([22]).
3- قوله تعالى: } طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ {فيه بيانٌ للعذر المرخِّص في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، وهذا يدل على أن الأصل هو الوجوب([23]).
هذه مجمل أدلة وجوب الاستئذان بنوعيه. وهو القول الراجح -إن شاء الله-. وقد رجَّحه الرازي([24]) والسيوطي([25]) وابن عبد البر([26]) وفضيلة شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-، وأما من قال بالاستحباب فلهم أدلة، لكنها لا تقوى على معارضة القائلين بالوجوب، فضربت عنها صفحًا خشية الإطالة. والله أعلم.
* * * *
المبحث الثاني
صيغ الاستئذان
لقد جاءت صيغة الاستئذان في السنة المطهرة مفصَّلة أتم تفصيل، وهذا يدل على أهمية الاستئذان في حياة المسلم.
وطريقة الاستئذان الصحيحة: أن يقول المستأذن: السلام عليكم، أأدْخل؟ فإن أُذن له دخل، وإن أُمر بالرجوع انصرف، وإن سُكت عنه استأذن ثلاثًا ثم انصرف من بعد الثلاث؛ وذلك لما رواه أبو داود وغيره أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي r، وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي r لخادمه([27]): «اخرج إلى هذا؛ فعلِّمه الاستئذان». فقال له: قل: «السلام عليكم، أأدخل»، فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي r، فدخل([28]).
وجاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أنه إذا استأذن فقيل له: ادخُل بسلام، رجع وقال: لا أدري أدخل بسلام أو بغير سلام!!»([29]).
ففي هذا الأثر امتنع ابن عمر عن الدخول لما قيل له: بسلام. لاحتمال أن يكون المراد بسلامك لا بشخصك([30])؛ ولأنهم اشترطوا عليه شرطًا لا يدري أيفي به أم لا. كما علل بذلك رضي الله عنه ([31]).
هذه هي الصيغة التي يجب أن يسير عليها المسلم في الاستئذان، وهي التي وردت عن المصطفى r، وقد امتثلها أصحابه -رضوان الله عليهم- وعملوا بها.
فقد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه استأذن على النبي r، فقال: «السلام على رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر»([32]). لكن ليعلم أنه ليس من الواجب التزام هذه الصيغة، بل لكل قوم عُرفهم وعادتهم في الاستئذان.
وقد روي عن عبد الملك -مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب- قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة، فجاء معي، فلما بلغ الباب قال: أندر؟ قالت: أندرون، وذكر العلماء أن هذا من الاستئذان بالفارسية([33]).
فرد الاستئذان يجوز عمومًا بكل ما تعارف عليه الناس، ما لم يكن فيه محظور شرعًا، لكن اتباع السنة أولى وأفضل([34]) والله أعلم.
المبحث الثالث
عدد مرات الاستئذان
لقد صح عن الرسول r عدد مرات الاستئذان.
ومن ذلك ما بوَّب له البخاري -رحمه الله- في صحيحه، حيث قال: «باب التسليم والاستئذان ثلاثًا»، وذكر -رحمه الله- حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: «أن رسول الله r كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا»([35]).
ولعل هذا كان هديه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلام واحد، أو هديه في إسماع السلام الثاني والثالث إن ظنَّ أن الأول لم يحصل به الإسماع، وإلا لو كان هديه الدائم التسليم ثلاثًا، لكان أصحابه يسلمون عليه كذلك، وكان يسلَّم على كل من لقيه ثلاثًا، وإذا دخل بيته ثلاثًا، ومن تأمل هديه علم أن الأمر ليس كذلك، وأن تكرار السلام كان منه أمرًا عارضًا في بعض الأحيان([36]).
هذا فيما يخص السلام نفسه، وأما الاستئذان فإنه ثلاث، لا بد منها إن لم يجبه أحدٌ. وعلى هذا دلت السنة الصحيحة دلالة واضحة.
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور([37]) فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا؛ فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يُؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله r: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يُؤذن له- فليرجع». فقال: والله لتقيمَن عليه بينة.
أمنكم أحدٌ سمعه من رسول الله r؟ فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم([38])، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي r قال ذلك([39]).
فهذه هي السنة في الاستئذان: أن يكون ثلاث مرات لا يزيد عليها؛ لأن هذا هو هدي النبي r، وهو ما طبقه أبو موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وشهد مع أبي موسى أبو سعيد الخدري.
لكن هل يجوز أن يزيد المستأذن على الثلاث؟
منع الجمهور ذلك، خلافًا للإمام مالك -رحمه الله- فقال: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحدٌ عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسًا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع([40]).
فالإمام مالك أجاز الزيادة بشرط التيقن من عدم السماع، وأما الجمهور فقد منعوا ذلك.
والصحيح ما ذهب إليه الإمام مالك -رحمه الله-، قال ابن عبد البر: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الإباحة والتخفيف على المستأذن، فمن استأذن أكثر من ثلاث مرات لم يحرج. والله أعلم. اﻫ([41]).
قلت: ورجح رأي الإمام مالك شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-.
فتبين أنه لا مانع من الزيادة على الثلاث، وأنه لا حرج في ذلك -إن شاء الله- بالشرط المذكور، وإن كان الأولى الالتزام بما عليه الجمهور، فإن لم يؤذن له انصرف بعد الثلاث، ولا يزيد عليها، وهذا ثابتٌ عن النبي r ثبوتًا لا مطعن فيه، وهو نصٌّ صريح عنه، والظاهر من نصوص السنة أن الاستئناس في قوله تعالى: }حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا {[النور: 27].
الظاهر أن الاستئذان المكرر ثلاثًا؛ لأنه خير ما يفسر به كلام الله -بعد كلام الله- هو سنة رسول الله r، وهذا خلاف لمن قال: إن الاستئناس هو التنحنح؛ لأن الاستئناس بالسلام ثابتٌ عن النبي r في حديث سعد بن عبادة -وهو حديث طويل- وفيه:
عن قيس بن سعد بن عبادة قال: زارنا رسول الله r في منزلنا، فقال: «السلام عليكم ورحمة الله». قال: فرد سعدٌ ردًّا خفيًّا. قلت: ألا تأذن لرسول الله؟ فقال: ذره يكثر علينا السلام. فقال r: «السلام عليكم ورحمة الله»، فرد سعدٌ ردًّا خفيًّا، ثم قال r: «السلام عليكم ورحمة الله»، ثم رجع رسول الله r، واتبعه سعدٌ فقال: يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك وأرد ردًّا خفيًّا لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه r([42]).
فرجوع المستأذن بعد ثلاث وعدم الزيادة ثابتٌ من قول النبي r ومن فعله.
ثم إن المستأذن إذا تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثلاث؛ لأنهم لما سمعوه ولم يأذنوا له- دلَّ ذلك على عدم الإذن.
وعدم الزيادة على الثلاث ثابتٌ بالسنة، خلافًا لمن قال: له أن يزيد([43]).
ومما ينبغي للمستأذن: أن لا يستأذن ثلاثًا متصلة، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت. وأما قرع الباب بعنف، والصياح بصاحب الدار، فهذا حرام، لأنه يتضمن الإيذاء والإيحاش([44]).
وقد عاتب الله -سبحانه- الأعراب حينما فعلوا هذا مع رسول الله r -كما في سورة الحجرات- حيث يقول سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {[الحجرات: 4، 5]، فقد قدم أعراب إلى النبي r، وهو في بيته فلم ينتظروا عند بابه بل صوتوا له: يا محمد، ولم يصبروا، فعاتبهم الله على فعلهم ووصفهم بأنهم لا يعقلون([45]).
وأما الحكمة من تخصيص الاستئذان بثلاث: فإن الأُولى للإسماع، والثانية ليأخذوا حذرهم، والثالثة: إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردّوا([46]).
وقال بعض العلماء: إن الأُولى استعلام، والثانية تأكيد، والثالثة إعذار([47]) والمعنى قريب. ولأن الغالب في الكلام إذا كرر ثلاثًا سُمع وفهم، ولذلك كان النبي r إذا سلَّم سلَّم ثلاثًا وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا -كما تقدم-.
وإن لم يؤذن له بعد الثلاث ظهر أن ربَّ البيت لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه.
فينبغي أن ينصرف بعد الثلاث؛ لأن الزيادة تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولاً به، وهذا يظهر أيضًا من قول النبي r لعتبان -رضي الله عنه- حينما استأذنه فخرج ورأسه يقطر، فقال r: «لعلنا أعجلناك» قال: نعم([48]).
وفي حديث سعد بن عبادة -رضي الله عنه- المتقدم([49]) حينما استأذنه النبي r ثلاثًا، فلم يسمع النبي r الرد، انصرف بعد الثالثة ولم يلحّ عليه؛ لأنه تبين له انشغاله.
فهذا أدب المصطفى r، فيجب على المسلم أن يتأدَّب بأدبه، لأن من بانت له سنته r، فليس له العدول عنها، والله أعلم.