التمهيد
تعريف الاستئذان وحكمته التشريعية
أولاً: التعريف:
أ- التعريف اللغوي:
ذكر علماء اللغة للإذن استعمالات شتى، وأظهرها أنه يفيد معنى "العلم أو الإعلام"، يُقال: أذن به إذنًا وأذانة: أي علم([1]). وقال ابن منظور: وآذنه الأمر أعلمه، وأذنت أكثرت الإعلام، والأذان الإعلام. وقوله تعالى: }وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ{[التوبة: 3]. أي إعلام. وأذِن له في الشيء إذنًا: أباحه له. وأذن تأذينًا: أكثر الإعلام([2]).
وقال الفيروزآبادي: أذن بالشيء: علم به، واستأذنه: طلب منه الإذن([3]).
ووجه التعبير عن الاستئذان بالاستئناس: أنه مثله في معنى الاستعلام([4]) ويفسر الإذن في القرآن الكريم بما يتناسب مع السياق، فقوله تعالى: } قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ {[البقرة: 97]. أي بعلمه وإرادته وتسهيله وتيسيره([5]).
وقوله تعالى: } وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ {[آل عمران: 145]. أي بأمره وقدره.
وقال تعالى: } وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ {[النساء: 64]. أي بأمره وتوفيقه.
وكلمة الاستئذان تفيد الطلب؛ لأن السين والتاء تدلان على الطلب.
وملخص القول: أن كلمة الإذن ذات معانٍ كثيرة يعنينا في هذا البحث أهمها وأظهرها، وهي: العلم والإعلام والإباحة والأنس والنداء([6]).
ب- التعريف الاصطلاحي:
الاستئذان في اصطلاح الفقهاء هو: فك الحجر وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعًا شرعًا([7]). ويمكننا أن نصوغ تعريفًا للإذن من الحيثية التي تعنينا، فنقول هو: التماس الإذن تأدبًا خشية الاطلاع على عورة.
أو هو استباحة المحظور على وجه مشروع([8]).
ويمكننا أن نقول إنه: طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن([9]).
ثانيًا: الحكمة من مشروعية الاستئذان:
ما من ريب أن الأهداف الاجتماعية ترمي إلى أهداف سامية وفي سنها أحكام وحِكم يدركها المتفقهون. والتشريعات الإسلامية على الجملة تتوخى في شموليتها إسعاد المجتمع الإسلامي وبناءه على نحو فريد ليكون مجتمع إيمان وبِرّ وتقوى، متميزًا في خصائصه وسماته وأحوالها كلها. قال تعالى: } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ {[آل عمران: 110]. وإن نظرة متأنية إلى أسرار أدب الاستئذان تكشف عن حِكمه وواقعيته، فالإنسان ذو غرائز وشهوات وميول ورغبات وليس كل أحد يمتنع عن إرسال شهواته ومسبباتها بدافع الضمير الإنساني أو بدوافع المروءة والنخوة كما يمتنع بالوازع الإيماني، والشريعة الإسلامية ذات أحكام ميسرة ونظرات بعيدة متعمقة فإنها إذا حرّمت شيئًا تحرم كل سبب وداعٍ يؤدي إليه.
فالإسلام مثلاً حينما حرم الزنا حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج وكل ما يؤدي إلى الزنا، وكذلك حرم الغناء -أيضًا- لما ذكر بعض أهل العلم من أن الغناء بريد الزنا، فنظرة الإسلام بعيدة ومتعمقة لا يدركها كل إنسان.
ومن المعلوم خطورة النظر على المجتمع الإسلامي، فإن نعمة البصر أشرف وأعظم النعم في البدن، وكلما عظمت النعمة عظم الخطر، فمن لم يحفظ أشرف الحواس وهو البصر يقع في أقبح الأمور وهو الزنا، وهذا فيما يتعلق بالنظر المحرَّم، وإلا فإن الإسلام أباح من النظر ما فيه مصلحة أو ضرورة، كنظر الخاطب إلى مخطوبته -بل استحبه بعض العلماء- وكنظر الإنسان إلى محارمه.
وإذا كان النظر المحرَّم يشكل خطرًا عظيمًا على المجتمع المسلم الذي يتميز عن غيره من المجتمعات بالحشمة والسَّتر؛ فإن الشرع سنَّ آدابًا تتمشى مع مصالح المجتمع، فشرع الاستئذان، حتى إن الله -سبحانه وتعالى- أنزل أحكام الاستئذان في محكم التنزيل، وهذا من كمال التشريع الذي يلمّ بكل صغيرة وكبيرة، ومن أهمية هذا الأدب أيضًا.
والاستئذان أدبٌ رفيع يحفظ للبيوت حُرماتها، وإنها لحرمات عظيمة تطويها بيوت المسلمين، وأي حرمة أعظم من هذه الحرمة التي تجعل المصطفى r يهدر عينَ من اطّلع على دار قوم بغير إذنهم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي، r قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه؛ لم يكن عليك جناح»([10]).
فالاستئذان يحقق للبيوت حرمتها، ويجنب أهلها الحرج الواقع من المفاجأة والمباغتة والتأذي بانكشاف العورات، والعورات كثيرة تعني غير ما يتبادر إلى الذهن، فليست عورة البدن وحدها وإنما يُضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث التي لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمُّل وإعداد، وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا من لا يحب أن يراه أحد وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء([11]).
ومن حِكم الاستئذان صيانة المرأة المسلمة عن التبذُّل، دون أن يراها أحدٌ غير مَحرم، ومن تأمل سورة النور وترتيب موضوعاتها وجد أن آيات الاستئذان جاءت بعد تقرير حدّ الزنا والقذف والوقاية منهما.
ويقول الشوكاني -رحمه الله- في صدد هذا الموضوع: لما فرَغ -سُبحانه- من ذكر الزجر عن الزنا والقذف، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيت بغير استئذان؛ لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين. اﻫ([12]). فأدب الاستئذان متضمن لقطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، فإذا دخل امرؤ بيتًا بلا استئذان وكان ذلك مباحًا، فقد يراه حال دخوله أو حال خروجه من يتهمه ويتهم أهل البيت المدخول عليهم بما لم يخطر ببال.
ولقد يصادفه حال خروجه ربُّ الدار وليس فيها إلا امرأته مثلاً، فتذهب به الظنون كل مذهب، ويجد الشيطان له في نفسه مرتعًا خصبًا، وربما جرَّ إلى خراب البيت وإلحاق أطفالهما بالأيتام، وتتسع المقالة لضعفاء الإيمان، فيخوضون في الأعراض بما ليس لهم به علم، فتشريع هذا الحكم من أعظم مظاهر الرحمة في تشريع الحنيفية السَّمحة([13]).
ومن كمال التشريع الإسلامي أن جاء بالاستئذان مفصلاً كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-، فمنه الخاص ومنه العام، وقد أباح الله -سبحانه- للمماليك والصغار الطواف في البيوت بغير استئذان وذلك لحاجة أهليهم وأسيادهم إليهم إلا في أوقات ثلاثة، فقد فرض الله عليهم الاستئذان فيها، وهذه الأوقات الثلاثة هي: ما قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد العشاء.
فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذنٍ؛ وذلك لأنه وقتٌ يأوي فيه الناس إلى أزواجهم، وتنزع فيه الثياب، وقد يحصل بين الأزواج ما يحصل، فالدخول محظور حتى على الصغار والمماليك؛ لكي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم، وهذا أدبٌ قد يغفل عنه بعض الناس فيعتقد أن المملوك والصغير لا تمتد أعينهم إلى ساداتهم وأهليهم، وهذا اعتقاد خاطئ، بل إنه قد ثبت لدى علماء النفس أن اطّلاع الصغير على بعض المشاهد له تأثير في حياته النفسية، وقد يؤدي إلى أمراض عصبية.
وقد أدرك الإسلام كل هذه الأبعاد، فما أكمل تشريعات الإسلام وأشملها! ولكن أين الذين يعتقدون التقدم ويتبعون ما يُسمى بالحضارة، وهي أفكار انصبت عليهم من الغرب الفاشل؟! أين هم عن هذه التشريعات السَّامية؟! التي من المستحيل أن تأتي بمثلها عقول البشر، فهي أحكام صادرة من عند الله -سبحانه وتعالى- الذي أخبرنا أنه أكمل لنا ديننا وارتضاه إذ يقول تعالى: } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا {[المائدة: 3].
هذا ما جادت به النفسُ وأمكن تسطيره حول الحكمة من مشروعية الاستئذان وإن كان جهدًا يسيرًا، لكن لو لم يأتِ في حكمة الاستئذان إلا أنه أمرٌ من الله ورسوله لكفى؛ لأنه يغنينا عن البحث عن الحكمة، والله أعلم.
* * * *