العلامة الشيخ حبيب الكاظمي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)}.
1 ـ إنّ كل استعاذة ـ وهي الاعتصام بالالتجاء إلى الغير من كل ذي شر ـ فيها أركان ثلاثة؛ هي:
ـ أوّلاً المعتصِم؛ ولازمه تحقق الخوف ممّا يحذره وإلا لما كان معتصماً.
ـ وثانياً المُعتَصم به أو الملتجَأ إليه؛ ولازمه الثقة بقدرته على الإعانة والإعاذة.
ـ وثالثاً المُعتصم منه وهو ذلك الشر الذي يستعيذ منه الانسان لخوفه من ضرره.
ومن المعلوم انّه لدى اجتماع الأركان الثلاثة، يُتوقع فعلية الاستعاذة والالتجاء، وذلك فيما لو كان المعتصِم جاداً في استعاذته.
وقد جاءت السورة لتثبيت هذه الأركان الثلاثة: فالمأمور بـ {قُلْ} هو المستعِيذ، والرب المتعال هو المستعَاذ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} والمخوف المستعاذ منه ما ذكر من الشرور في السورة الكريمة.
2 ـ ورد الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم اعتماداً على الاسم الدال على الذات {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل: 98] وهنا ورد الأمر بالاستعاذة اعتماداً على الاسم الدال على الوصف {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وقد يكون في ذلك إشارة إلى عظمة وسوسة الشيطان عند قراءة القرآن المستلزم لذكر المولى بأعظم أسمائه؛ لأنّ المقام مقام دفع الشر في عالم القرب إلى الله تعالى، خلافاً لمقام الاستعاذة من شر الظلام والساحر والحسود فقد يكون الضرر دنيوياً محضاً.
3 ـ إنّ الاستعاذة راجحة قبل وقوع الواقعة بل هي الدافعة لها، ومن المعلوم أنّ الدفع أيسر من الرفع!.. فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستعيذ هو بهذه السورة وكان كثيراً ما يعوّذ الحسن والحسين (عليهما السلام) بهاتين السورتين أي (الفلق) و(الناس) وخاصة على القول بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يكون في معرض التأثر بالسحر وإلا صار وهْن فيه ينافي مقام الرسالة، فإنّ الاستعاذة من شر غير واقع لا ضير فيه.
4 ـ إنّ الاستعاذة تلازم الخوف والخوف يستدعي العمل للنجاة ممّا يُخاف منه، وهو ما نراه فيما نقله القرآن الكريم عن أهل البيت (عليهم السلام) عند التصدق بالطعام حينما قالوا: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [سورة الإنسان: 10] فهم جمعوا بين {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [سورة الإنسان: 9] وبين ذلك الخوف الموجب للاستعاذة.. وعليه فإنّ المستعيذ الصادق هو الذي يلتجئ بصدق، وصدق الالتجاء يكون بالعمل على ما يوجب النجاة.
5 ـ إنّ المناسبة واضحة بين التعبير {بِرَبِّ الْفَلَقِ} والاستعاذة من مختلف الشرور المذكورة في هذه السورة؛ فما المانع أن يُزيل الله تعالى ظلمة الشرور بنور الفرج عند الاستعاذة به، وهو الذي يشقّ ظلمة الليل بعمود الصبح ويرينا ذلك في كل يوم؟!.. وقد تكون المناسبة هي النفحات المقارنة لساعة الفلق فعندها نشهد {الْمُسْتَغْفِرينَ بِالْأَسْحار} [سورة آل عمران: 17] وعندها تقترن ملائكة الليل بالنهار، وعندها يتحقق قرآن الفجر المشهود لدى ملائكة الليل والنهار {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [سورة الإسراء: 78] فكانت الاستعاذة بالرب والمستندة لهذا الوقت المبارك أدعى للاستجابة!..
6 ـ إنّ كلمة {الْفَلَقِ} هنا كـ {الْكَوْثَرَ} [سورة الكوثر: 1] و {الْفَجْرِ} [سورة الفجر: 1] وغيرها من المفردات التي اختلف في معناها المفسرون، وذلك لإمكان انطباقها على محتملات كثيرة وهو بدوره كاشف عن عمق هذا الكتاب، وتبين الحاجة إلى من يُعيّن المراد من بين المحتملات، فقيل:
ـ إنّه الصبح الذي يشق الظلام.
ـ إخراج كل موجود إلى الوجود بفلق وعائه أي بشقه، سواء في الحيوان أو النبات فهو القائل {إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} [سورة الانعام: 95].
ـ إنّه إخراج كل شيء من ظلمة العدم إلى نور الوجود؛ فهو شق لستار العدم أيضاً.