قبل اليوم ،كنت أعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها ،عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم ، دون أن نتألم مرة أخرى ، عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين، دون جنون، دون حقد أيضا ...
سأكتب لك من مدينة ما زالت تشبهك وأصبحت أشبهها ، مازالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل ، وأنا أصبحت جسرا آخر معلقا هنا .
عندما أبحث في حياتي اليوم أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة حقا ...، أكنت زلة قدم أم زلة قدر ، عندما كنت أتصفح مجلة عن طريق الصدفة وإذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحة بأكملها ،كيف لم أتوقع بعد كل تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين، في مجلة لا أقراها عادة ...
ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنة سلكت هذه الطرق ( يعني طرق قسنطينة وغاباتها الكثيفة ) واخترت أن تكون تلك الجبال بيتي ومدرستي السرية التي أتعلم فيها المادة الممنوعة من التدريس ،كانت الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره الثالث. أي صدفة... أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماما ليضعني مع السي الطاهر في تجربة كفاحية مسلحة ، جاءت تلك المعركة الضارية لتقلب يوما كل شيء . فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين ، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعد ما اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة ، لم يكن العلاج بالنسبة لي سوى بثر يدي . حاول السي الطاهر أن يحافظ على نبرته الطبيعية، وراح يودعني كما كان يودعني كل مرة قبل كل معركة جديدة ، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية وقال ينحني علي وكأنه يودعني سرا :
((لقد وضعت في جيبك عنوان العائلة في تونس وشيئا من الدراهم )) ثم تمتم : " لو قدر لك أن تصل إلى هناك ...أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين تشفى وتسلم هذا المبلغ إلى أما لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضا أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك ... لقد اخترت لها هذا الإسم ... سجلها متى استطعت ذلك وقبلها عني ... وسلم كثيرا على أما "
كانت تلك أول مرة أسمع فيها اسمك ،ترى أندعوك بذلك الاسم الذي أراده والدك ، أم باسمك الأول ، الذي حملته خلال ستة أشهر ، مات السي الطاهر على عتبات الاستقلال ، لاشيء في يده غير سلاحه ، كانت آخر مرة رأيته فيها ، في يناير 1960
كان يوم لقائنا يوما للدهشة ، لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول، ليست من الحماقة لأقول أنني أحببتك من النظرة الأولى ، يمكنني أن أقول أنني أحببتك ما قبل النظرة الأولى، كان وجهك يطاردني بين كل الوجوه ، وثوبك الأبيض المتنقل من لوحة إلى أخرى ... وفجأة اقترب اللون الأبيض مني، وراح يتحدث الفرنسية مع فتاة أخرى . نظرتما إلى مع شيء من الدهشة . كانت عيناك تكتشفان في نظرة خاطفة ذراع جاكيتي الفارغة ، كنت تتأملين ذراعي الناقصة ، وأتأمل سوارا بيدك .
وقالت وهي تعرفني بنفسها : الآنسة عبد المولى إني سعيدة بلقائك .
عبد المولى ، عبد المولى ... كنت أعرف عائلة عبد المولى جيدا ، من منكما ابنة السي الطاهر ، من منكما أنت ؟ أندهش لهده المصادفة ، وأجد فجأة تبريرا لوجهك المحبب إلي مسبقا . لقد كنت نسخة عن سي الطاهر كنت أنثى .قلت قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم . في ذلك اليوم سعدت وأنا أرى كاترين تدخل القاعة . قالت كاثرين بصوت أعلى وهي تمسك بذراعي : برافو خالد ...أهنئك ...رائع كل هذا ...أيها العزيز.اكتشفت لحظتها انني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض ، فلا شيء يجمعني بهذه المرأة سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن .
صباح الاثنين لبست بذلتي الأجمل لموعدنا المحتمل ، عندما دخلت القاعة كنت أول من يطأها في ذلك الصباح . رحت بعدها أتلهى ببعض المشاغل ولم تأتي . ستأتي رددت الصوت ساعة ساعتين وأكثر . وفجأة فتح الباب ليدخل منه سي الشريف ، نهضت إليه مسلما وأنا أخفي عنه دهشتي ع السلامة يا سيدي عاش من شافك .قالها وهو يحتضنني ويسلم على بحرارة . شفت شكون جبت معايا ؟ صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى أهلا سي مصطفى واش راك واش هاذ الطلة . قال : واش آ سيدي لو كان مانجيوكش مانشوفوكش وإلا كيفاش ؟ كنت قلقا مبعثرا بين الأحاسيس التي استدرجني إليها سي مصطفى وبين هاجس قدومك الذي أرهقني انتظاره منذ أيام . ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة حتى رأيتك تدخلين قالت مرحبا : آسفة ، أتيت متأخرة عن موعدنا بيوم ، قلت : لا تتأسفي .
التقينا اذن : الذين قالوا الجبال وحدها لا تلتقي أخطأوا .
قلت ضاحكة : سأعترف لك بشيء .. لقد اربكتني هذه القصة كثيرا . كنت أريد أن أحب رجلا كهذا أو أكتب رواية كهذه . قلت ساخرا : يسعدني إذن أن تجدي شيئا من الشبه بيني وبينه ، وقد تحققين الأمنيتين معا .
نظرة إلى خشبة الألوان التي كانت بيدي ،أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة ، ادهشتني أكثر ، كون هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح ، كنت أرسم اللوحة بشهية مدهشة للرسم، بل وربما بشهوة ورغبة سرية ما ، فهل بدأت شهوتك تتسلل يومها الى فرشاتي ، دون أن أدري ؟
كان لرحيلك مذاق الفاجعة الأولى والوحدة التي أحالتني في أيا إلى مرتبة لوحة يتيمة على جدار .م أكثر من أسبوع قبل أن يأتي صوتك ذات صباح دون مقدمات : كيف أنت ؟اندهش القلب وارتبك الكلام ، وينك أجبتني بضحكة : حاول أن تحزر ،أجبتك كمن يحلم :هل عدت إلى باريس ؟ ضحكت وقلت:أي باريس .. أنا في قسنطينة ، جئت قبل أسبوع لأحضر زواج إحدى القريبات .
في ذلك الشهر الأخير من الصيف كنت ما أزال أتوقع رسالة منك ، عندما فاجأتني رسالة زياد القادمة من بيروت ، كيف وصلت هذه الرسالة من أي مخيم أو من أية جهة . كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في نهاية أيلول .
جاء زياد واستيقظ البيت الذي ظل مغلقا لشهرين في وجه الآخرين ، حتى في وجه كاترين نفسها .كان حديث زياد ينتهي كالعدة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني . على الهاتف قلت لك : تعالي غدا في ذلك المطعم نفسه ..فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها ، قلت إنها لوحتي ، أجبت إنه شاعر . التقيتما إذن ،إذا كنت هذه المرة أيضا أنا الضحية ، كان زياد يحدثني عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك ، فاستدرت بدوري نحو الباب ، ورأيتك تتقدمين نحونا . وقف زياد ليسلم عليك وبقيت أنا من دهشتي جالسا . ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة وأنا اكتشفت أنني لست سوى شبح بينكما ، كنت تتحدثين إلى قليلا ، وكثيرا إليه .
كان يجب أن أتوقع كل الذي يحدث ،فهل كان يمكن أن أقف انجرافكما بعد ذلك ، قال لي ذلك المساء :إنها رائعة هذه الفتاة ، ولكنني أعرف هذا الاسم، لقد سبق أن قرأته في مكان ما ، فقلت له وقتها :أنت لم تقرأ هذا الاسم إنما سمعته فقط .إنه اسم شارع في الجزائر يحمل إسم أبيها . شعرت برغبة في الكلام عنك أكثر ، كدت أحكي له قصة لوحتي حنين ، كدت أشرح له سر قسنطينة . رحت أبحث في ملامح زياد عن فرح ما ، ولكن لم يبد عليه أي شعور خاص، غير القلق . فجأة حدثني عنك قال : لقد طلبت منها أن تأتي غدا لنتناول معا غذائنا الأخير صحت بشيء من الدهشة : لماذا الأخير ؟قال :لأنني سأسافر الأحد .
سألتك بعدها هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار ؟ أجبت لا ...الذين نحبهم لا نودعهم ، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم ، لقد خلق الوداع للغرباء .. وليس لأحبة .كانت عيناك تودعان جسده قطعة قطعة وكأنك تختزنين منه صورا عدة كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحاز إليه، ولكنني كنت كنت أثق بمنطق الأيام وأنك في النهاية ستعودين إلي .
كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة ،وكنت أعيش بين خبرين : خبر صمتك المتواصل ، وخبر الفجائع العربية .أذكر أن خبرا صغيرا انفرد بي وقتها وغطى على بقية الأخبار ، فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحرا بطلقات نارية ، احتجاجا على اجتياح اسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده .
مازلت أذكر ذلك السبت العجيب .. عندما رن الهاتف ، كان اسي شريف سألني : أتدري لماذا طلبتك ؟انني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة . صحت متعجبا : قسنطينة ،لماذا قسنطينة ؟قال : لحضور عرس ابنة أخي سي الطاهر .شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي ، أجبته : الحقيقة إنني لست مستعدا نفسيا بعد زيارة كهذه . اختصرت الكلام في جملة واحدة : كل شيء مبروك ، رد سي الشريف الله يهنيك ويبارك فيك .على أصابع الجرح أعود للوطن ،مشيا على جرحي الأخير أعود إليه على عجل .عشر سنوات من الغياب ، هاهي اللوحة التي أحضرتها هدية عرسك تشغل مكانك الفارغ إلى جواري هاهي قسنطينة .
ولكن كان هناك شيء ما في هذا الزواج يرفض أن يدخل عقلي وأقتنع به . لعرسك لبست البذلة السوداء استقبلني سي الشريف بالأحضان :أهلا سي خالد أهلا زارتنا البركة يعطيك الصحة للي جيت اختصرت ذلك الموقف : كل شيء مبروك .وضعت قناع الفرح على وجهي . يسألني حسان: لماذا أنت حزين هذا الصباح ؟ وأحاول ألا أسأله ولماذا هو سعيد اليوم ؟ أدري أن غياب ناصر ومقاطعته العرس قد عكر نوعا ما مزاجه ، كنت ألاحظه وكنت ألاحظ سعادته الساذجة .قلت بصوت غائب : سأعود إلى باريس غدا صاح : كيف تعود غدا ؟ابق معنا أسبوعا على الأقل أجبته بلهجة قاطعة : فرات غدوة نروح . هل أنت مصر حقا على السفر غدا قلت له : نعم . قال : لابد أن تطلب سي الشريف اليوم لتعتذر منه ، فقد يسئ تفسير موقفك .
قلت لحسان : اطلب لي رقم سي الشريف لاعتذر إليه قال تعال إذن وتغذى معنا اليوم ، كنت أعيش لحظات حبك الأخيرة . لكن مات حسان وتحول قلبي إلى مقبرة جماعية ينام فيها دون ترتيب كل من أحببت ، وكأن قبر أمّا اتسع ليضمهم جميعا .
كنت أدري الكثير عن حماقة القدر ، الكثير عن ظلمه وعن عناده ، عندما يصر على ملاحقة أحد .
ولكن أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئا كذلك يمكن أن يحدث ؟ كنت اعتقد أنني دفعت لهذا القدر الأحمق ما فيه كفاية ،وأنه حان لي بعد هذا العمر ، وتلك السنوات التي تلت فجيعة زياد وفجيعة زواجك ، أن أرتاح أخيرا ، فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني أخي، أخي الذي لم يكن لموته من منطق. لا كان في جبهة، ولا كان في ساحة قتال ليموت ميتة سي الطاهر ، وميتة زياد ، رميا بالرصاص ...أيضا