الحمد لله، والصﻼة والسﻼم على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فحينما يقلب المسلم سيرة*النبي
[ *]* صلى الله عليه وسلم ﻻ ينقضي عجبه من جوانب العظمة والكمال في شخصيته العظيمة صلوات ربي وسﻼمه عليه.
ومن جوانب تلك العظمة: ذلك التوازن والتكامل في أحواله كلها، واستعماله لكل وسائل تأليف*القلوب
[ *]* وفي جميع الظروف.
ومن أكبر تلك الوسائل التي استعملها صلى الله عليه وسلم في دعوته، هي تلكم الحركة التي ﻻ تكلِّف شيئًا، وﻻ تستغرق أكثر من لمحة بصر، تنطلق من الشفتين؛ لتصل إلى القلوب، عبر بوابة العين، فﻼ تَسَل عن أثرها في سلب العقول، وذهاب اﻷحزان، وتصفية النفوس، وكسر الحواجز مع بني اﻹنسان!
تلكم هي*الصدقة
[ *]* التي كانت تجري على شفتيه الطاهرتين: إنها اﻻبتسامة!
اﻻبتسامة التي أثبتها*القرآن الكريم
[ *]* عن نبي من أنبيائه، وهو سليمان عليه السﻼم حينما قالت النملة ما قالت!
إنها اﻻبتسامة التي لم تكن تفارق محيا رسولنا صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، فلقد كان يتبسم حينما يﻼقي أصحابَه، ويبتسم في مقام القضاء ، بل حينما يجد من البعض جفوةً وغلظة! بل ويبتسم صلى الله عليه وسلم حتى في مقام القضاء!
فهذا جريررضي الله عنه يقول كما في الصحيحين: ما حَجَبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسملتُ، وﻻ رآني إﻻ تَبَسَّم في وجهي [1].
ويأتي إليه اﻷعرابي بكل جفاء وغلظة، ويجذبه جذبة أثرت في صفحة عنقه، ويقول: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ [2].
ومع شدة عتابه صلى الله عليه وسلم للذين تخلفوا عن غزوة تبوك؛ لم تغب هذه اﻻبتسامة عنه وهو يسمع منهم، يقول كعب رضي الله عنه بعد أن ذكر اعتذار المنافقين وحلفهم الكاذب: فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ.. [3].
ويسمع أصحابَه يتحدثون في أمور الجاهلية وهم في المسجد فيمر بهم ويبتسم!
*
بل لم تنطفئ هذه اﻻبتسامة عن محياه الشريف وثغره الطاهر حتى في آخر لحظات حياته، وهو يودع*الدنيا
[ *]* صلى الله عليه وسلم يقول أنس كما في الصحيحين: بينما الْمُسْلِمُونَ في صَﻼَةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ اﻻِثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى لَهُمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِﻻَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِى صُفُوفِ الصَّﻼَةِ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ! [4].
ولهذا لم يكن عجيبًا أن يملك قلوبَ أصحابه، وزوجاته، ومن لقيه من الناس!
لقد شقّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم طريقَه إلى القلوب باﻻبتسامة، فأذاب جليدَها، وبثّ اﻷمل فيها، وأزال الوحشة منها، بل سنّ ﻷمته وشرع لها هذا الخلق الجميل، وجعله من ميادين التنافس في الخير، فقال: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» [5].
ومع وضوح هذا الهدي النبوي ونصاعته؛ إﻻ أنك ترى بعضَ الناس يجلب إلى نفسه وإلى أهل بيته ومَن حوله الشقاءَ بحبس هذه اﻻبتسامة في فمه ونفسه.
إنك تشعر أن بعض الناس من شدة عبوسه وتقطيبه وكأنه يظن أن أسنانه عورةٌ من قلة ما يتبسم!
فأين هؤﻻء عن هذا الهدي النبوي العظيم؟!
نعم.. قد تمر باﻹنسان ساعات يحزن فيها، أو يكون مشغول البال، أو تمر به ظروف خاصة تجعله مهتمًا، لكن أن يكون الغالب على حياة اﻹنسان التكشير، واﻻنقباض، وحبس هذه الصدقة العظيمة؛ فهذا والله من الشقاء المعجّل لصاحبه عياذًا بالله.
إن بعض الناس حينما يتحدث عن اﻻبتسامة يربط ذلك ببعض اﻵثار النفسية الجيدة على المبتسم، وهذا حسن، وهو قدر يشترك فيه بنو آدم، إﻻ أن المسلم يحدوه في ذلك أمرٌ آخر، وهو: التأسي به صلى الله عليه وسلم واﻻقتداء به، وستأتيه اﻵثار النفسية والصحية التي تُذكر في هذا المجال.
لقد أدرك العقﻼءُ من الكفار والمسلمين أهميةَ هذه اﻻبتسامة، وعظيمَ أثرها في الحياة.
يقول ديل كارنيجي في كتابه المشهور (كيف تكسب اﻷصدقاء وتؤثر في الناس): "إن قسمات الوجه خير معبِّر عن مشاعر صاحبه، فالوجه الصبوح ذو اﻻبتسامة الطبيعية الصادقة خير وسيلة لكسب الصداقة والتعاون مع اﻵخرين، إنها أفضل من منحة يقدّمها الرجل، ومِن أرطال كثيرة من المساحيق على وجه*المرأة
[ *]*، فهي رمز المحبة الخالصة والوداد الصافي.
ويقول: لقد طلبت من تﻼميذي أن يبتسم كل منهم لشخص معيَّن كل يوم في أسبوع واحد.
فجاءه أحد التﻼميذ من التجار، وقال له: اخترتُ زوجتي لﻼبتسامة، ولم تكن تعرفها مني قط، فكانت النتيجة أنني اكتشفت سعادة جديدة لم أذق مثلها طوال اﻷعوام اﻷخيرة! فحفزني ذلك إلى اﻻبتسام لكل من يتصل بي، فصار الناس يبادلونني التحية، ويسارعون إلى خدمتي، وشعرت بأن الحياة صارت أكثر إشراقًا وأيسر منالًا، وقد زادت أرباحي الحقيقية بفضل تلك اﻻبتسامة... إلى أن قال: تذكر أن اﻻبتسامة ﻻ تكلِّف شيئًا، ولكنها تعود بخير كثير، وهي ﻻ تُفقِر من يمنحها مع أنها تُغني آخذيها! وﻻ تنس أنها ﻻ تستغرق لحظة، ولكنها تبقى ذكرى حلوة إلى آخر العمر. وليس أحد فقيرٌ ﻻ يملكها، وﻻ أحد غني مستغن عنها" انتهى كﻼمه.
كم نحتاج إلى إشاعة هذا الهدي النبوي الشريف، والتعبد لله به: في ذواتنا، وبيوتنا، مع أزواجنا، وأوﻻدنا، وزمﻼئنا في العمل، فلن نخسر شيئًا، بل إننا سنخسر خيرًا كثيرًا دينيًا ودنيويًا حينما نحبس هذه الصدقة عن الخروج إلى واقعنا المليء بضغوط الحياة.
إن التجارب تثبت اﻷثرَ الحسن والفعّال لهذه اﻻبتسامة حينما تسبق تصحيح الخطأ، وإنكار المنكر.
جاء في ترجمة الموفق ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب (المغني) أنه كان ﻻ يناظر أحدًا إﻻ وهو يتبسم، حتى قال بعضُ الناس: "هذا الشيخ يقتل خصمَه بتبسمه".
وبعد: فإن العابس ﻻ يؤذي إﻻ نفسه، وهو بعبوسه يحرمها من اﻻستمتاع بهذه الحياة، بينما ترى صاحبَ اﻻبتسامة دائماً في ربح وفرح.
*