الاعتماد على النفس[1]
من وسائل الفوز و النجاح للأفراد والجماعات في مقاصدها وغاياتها الاعتماد على النفس وعدم الاتكال على الغير في قضاء المصالح.
فإن الاتكال كما قيل وسادة لينة يتطلبها من يميل إلى النعاس، وأي فرد أو شعب تربى تربية استقلالية إلا وتجد النصر حليفه و الظفر أليفه في جميع ما يتجه إليه من الأعمال فعاش حرا شهما عزيزا محترما في أعين الناس.
إن الاعتماد على النفس درجة لا بد منها في سلم الرقي و النهوض و الإصلاح، فإن الاعتماد على الغير في خدمة القضايا الهامة وتسيير دفة الإصلاح مظنة الخيبة والإخفاق، فإذا كسل الإنسان عن قضاء مصالحه ووهن عن مباشرة شؤونه بنفسه فغيره أكسل و أوهن، ولا سيما في هذا العصر عصر المادة و عباد المادة.
و ما نجاح المسلمين في العصر الذهبي عصر النبوة إلا بعملهم بذلك المبدأ الإسلامي العالي وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، و ما إخفاقهم الآن في مواقع كثيرة إلا بتركهم لذلك المبدأ واعتمادهم على غيرهم الذي كان السبب في هلاكهم و خرابهم.
وهل أفاد القضية المصرية اعتماد المصريين فيما سلف على فرنسا قدر ما أفادها اعتمادهم على أنفسهم؟
وماذا جر اعتماد العرب على الحلفاء في خدمة قضيتهم؟ وهل أجدت عجوز العرب استغاثاته؟ وماذا جنى التونسيون من اعتمادهم في خدمة قضيتهم على كتلة الشمال؟
وهل استفاد الجزائريون شروا نقير من اعتمادهم على عطف فرنسا و أمومتها وحنوها؟ و هل أفاد المغاربة اعتمادهم على الأولياء و الصالحين وسكان القبور؟.
نعم استفاد أبناء الثورة الأحرار فخلصوا فرنسا من الحكم الفردي لما اعتمدوا على أنفسهم واستفاد أصحاب واشنطن فخلصوا أمريكا من الحكم الإنكليزي لما اعتمدوا على أنفسهم، واستفاد أبناء السماء فخلصوا جزر اليابان واستفاد الكماليون فخلصوا قلب البلاد العثمانية من براثن الأسد البريطاني في قفاز يوناني لما اعتمدوا على أنفسهم الخ..الخ.....
وعلى هذا النحو كانت قضايا الأفراد المعتمدين على أنفسهم فما نجح و ظفر من ظفر وفاز من فاز سواء في علم أو مال أو منزلة علياء إلا بالاعتماد على النفس.
وهل خاب من خاب وخسر من خسر إلا بالوهن و الفشل و الاعتماد على الغير؟ ولا تكثر المصائب وتتوالى الهزائم إلا في الأوساط التي سادت فيها فكرة أصحاب الطرق التي تعتمد في حياتها على الزيارات و النذور و حلول أوان الجذاذ و الحصاد لا على السعي و العمل و الإنتاج.
تنشأ عن هذا المرض صفات ذميمة كالطمع وسقوط النفس و الخنوع للأشخاص و الهياكل لا للمبادئ و القواعد.
ينشأ عنها مد الرقاب للصفع، و موت الإحساس، وجهل ذاتية النفس، و تعطيل المواهب و الاستعداد، وعلى قاعدة الإعتماد على النفس يجب أن يؤسس منهاج التعليم بل يجب أن يشربها الأطفال مع اللبن حتى يشبوا على الهمة و العزة و الشهامة غير واهين ولا وكلين ولا معتمدين على الوظائف و المرتبات والحقوق و الزيارات و النذور.
يحيى المعتمد على نفسه حياة عز واستقلال سالما من كل إهانة واحتقار كالنخلة باعتمادها على نفسها واستقامتها على جذعها تعيش في مأمن من دوس الأقدام و نيل الحيوانات منها.
ويعيش المتكل على غيره معيشة ذل و صغار، حياته معلقة بخيط من رضاء سيده المعتمد على ظله، كشجرة العنب لا تنمو وتمتد أغصانها إلا بامتدادها على غيرها، واعتمادها على سواها. فإن حياتها تدوم ما دامت مستندة على غيرها. فحينما ينفصل عنها تصبح عرضة للجوائح و دوس الأقدام و نهبة الحيوانات.
إن الاعتماد على النفس لاينافي التوكل على الله سبحانه لانفكاك جهتيهما فان الاعتماد على النفس فيما هو داخل ضمن الطوق البشرى كاتخاذ الأسباب و الاحتياطات اللازمة التي هي داخلة ضمن قدرة المخلوق.
و أما التوكل على الله ففيما هو خارج عن طاقة البشر كالحفظ من الآفات ومنع الجوائح كإنزال الأمطار وإنبات الأرض و التوفيق و التسديد و التأييد و النصر.الخ.
و ترك اتخاد الأسباب التي اقتضت سنته تعالى بارتباط المسببات بها و ترك اتخاذ الاحتياطات اللازمة وكل ما هو من وظيفة المخلوق بدعوى التوكل على الله في جلبها للإنسان وتمكينه منها إنما هو خور وسخافة وعبث مع الله سبحانه ومحاولته لتبديل سنته في خلقه لأجل مجادة ذلك الوهن الوكل. كما أنه لا يتنافى التعاون مع الخبير في المهمات مادام يستشعر المرء من نفسه أنه يعتمد عليها في كل ماله وحده قدرة عليه بدون عسر أو حرج.
و كذلك لا ينافى استشارة الغير واستمداد الرأي منه مادام هو يعمل فكره ورأيه ثم هو إذا أخذ برأي مستشاره فما هو إلا لأنه أصبح رأيا له و إلا فإنه يكون معه وهو عين المشكل على الغير.
و قد تسرب الغلط في معنى التوكل لكثير من الكسلاء و العاجزين فحملوه على معنى القعود عن العمل وعدم اتخاذ الأسباب وإعداد المعدات اللازمة لمواجهة الطوارئ مما هو داخل في طوق البشر تبريرا لميلهم إلى الدعة و إخلادهم إلى الراحة وعدم كفاءتهم للقيام بالعظائم، ففشلوا بذلك العامة وشلوا أعضاءها عن العمل. فعجزت عن إشادة المشاريع الكبيرة و المؤسسات العظيمة ففشا فيها الفقر وحاق بها الذل والمسكنة و استثمر حالها هذه ذوو المطامع و الغايات.
فظنت أوروبا من هذه المظاهر البائسة العامة بين المسلمين أن الإسلام نفسه هو دين التواكل و الكسل والقعود، فحكمت على الإسلام ـ ذلك الصراط المستقيم صراط الله ـ بما رأته و تراه من المسلمين غلطا أو تغليطا لإفساد الإسلام وتشويهه و تزهيد الناس فيه و ترغيبهم في مدنيتها و حضارتها حتى تبتلعهم و تهضمهم فكانوا لها حجة على الإسلام في الشرق و الغرب.
و لكن لتعلم أوروبا أن الإسلام شيء و المسلمين شيء آخر، كما أن المسيحية الحقيقية شيء والمسيحيون شيء آخر، فهل من الإنصاف أن نحكم على المسيحية الصحيحة بما عليه المسيحيون اليوم؟ كلا و ألف كلا.
و نوجه في الأخير كلمتنا للمسلمين راجين منهم أن يشهدوا بهدى الإسلام الشريف فإن شق على جماعة منهم شيء أو صعب عليهم أمر فليتنكبوا عن الطريق، وليريحوا الأمة من تغليطهم و تشويشهم، وليتركوا السبيل للعاملين المخلصين، وليربأوا بأنفسهم –و هم مسلمون-، أن يكونوا حجبا كثيفة لمزايا الإسلام الناصعة أو أكدارا في حياضه الصافية العذبة فيذودوا عن وروده الواردين أو يهيجوا على الكيد له أعداءه الكائدين، فتح الله الأبصار و البصائر إلى ما فيه إعزاز الإسلام و إعلاء كلمته.