بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: فهذه بعض المسائل المتعلقة بالصيام وبشهر رمضان، وهي – في أغلبها – عبارة عن ملحوظات وتنبيهات تطرح بين حين وآخر، وتذكير بأعمال فاضلة، وكان عملي جمعها وصياغتها.
وإني لأشكر كل من ساهم في هذه الرسالة المختصرة، سواء كان بكتابة أو مراجعة أو تصحيح أو اقتراح أو غير ذلك. وأخص من أولئك فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد الله راجع الرسالة وأفاد بتوجيهاته، وكذلك فضيلة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك الذي راجع مواضع منها. فجزى الله الجميع خيراً، ولا حرمهم أجر ما عملوا وذخره.
الاستعداد للأعمال الصالحة:
اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة وميدانا للتنافس. وكان من فضل الرب سبحانه وكرمه أنه يجزي على القليل بالكثير، ويضاعف الحسنة، ويجعل لعباده مواسم تعظم فيها تلك المضاعفة، ويزيد للعامل فيها الثواب.
ومن أعظم هذه المواسم وأجلها شهر رمضان، قال الله عز وجل: }شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ{[البقرة:185]؛ لذا كان حريا بالمسلم أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، لئلا يفوته الخير العظيم، أو لئلا ينشغل بمفضول عن فاضل، أو بفاضل عما هو أفضل منه – وقد كان سلف هذه الأمة يحرصون من الأعمال على أفضلها وأعظمها أجراً، وأحبها إلى الله، متأسين في ذلك برسول الله r.
أحوال الناس في استقبال رمضان:
يقول الله عز وجل: }إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى{صدق الله، فإنه فيما يتعلق بمواسم الخير – وبخاصة شهر رمضان واستقباله واستعداد الناس له – نرى التباين، حسب درجة العبد من الإيمان والصبر واليقين، ومنزلته من اليقظة واغتنام ساعات العمر. وبقدر الإخلال بشيء من ذلك تبتعد مواسم الخير ومتاجر الآخرة عن حصول المقاصد الشرعية منها. فرمضان وليلة الجمعة ويومها – مثلا – يجعلها أهل الغفلة مواسم عبث ولهو.
فشهر رمضان من الناس من يستقبله بالضجر – نسأل الله العافية – على ما سيفقده من الأكل متى ما أراد والشرب متى ما أراد، ومنهم من يستقبله بالسفر والهرب عن بلاد المسلمين، ومنهم من يستقبله بالإكثار من أطعمة يخص بها رمضان، ومنهم من يستقبله بالفرح والاستبشار وحمد الله أن بلغه رمضان، وعقد العزم على أن يعمره بما يزيد حسناته ويقربه إلى ربه. وهؤلاء هم صلة السلف، حيث يؤثر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
سبب استثقال بعض النفوس للأعمال الصالحة.
إن المؤمن ذا القلب السليم يقبل على أعمال الخير بقلب منشرح ونفس مستبشرة }قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ{ [يونس:58]، ويستقبل المواسم الفاضلة حامدا الله على سعة فضله وعلى أن مد له في العمر حتى أدركها؛ لكن قد يحدث خلاف ذلك الفرح والاستبشار من بعض الناس. فما سببه؟
لعل من أسبابه:
1-تعلق القلب بشهوة أو شبهة، فتعلق النفس بشهوة ما يثقل عليها غالبا العبادة المرتبطة بها. كالتعلق بشهوة المال يثقل عليها عبادة الزكاة والصدقات، والتعلق بشهوة الطعام والشراب يثقل عبادة الصيام، والتعلق بالأهل والأولاد يثقل عبادة الجهاد، وهكذا.
فمحبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله ومرتبط به، قال الله عز وجل: }وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{ [التوبة:124].
واستثقال الأعمال الصالحة والإعراض عنها أثر عن ضعف الإيمان وضعف محبة القلب لله. وإن شئت مصداقاً لهذا؛ فقارن قول النبي r: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وقوله: «أرحنا بها يا بلال»، بقول من يقول بلسان حاله أو مقاله: أرحنا منها.
هذا من آثار تعلق القلب بالشهوات، ومثل هذا؛ بل أخطر منه أثر الشبهات.
2-وهناك سبب آخر قد يوجد في بعض الناس، وهو أن يكون أحدهم قد حمل نفسه أكثر من طاقتها، وألزمها فوق ما تستطيع من الأعمال الصالحة، فينتج عن هذا: إما أن ينقطع عن ذلك العمل الصالح كلية فيتركه. أو أن يستبدل به عملاً مبتدعاً يكون أخف على النفس، أو أن يستمر على ما كان يفعله، لكن بغير إقبال نفس ولا انشراح صدر ولا محبة لهذا العمل الذي كلف نفسه به؛ لذا كان من أهم أسباب الاستقامة: لزوم هدي النبي r
وثمة تنبيه مهم وهو أن الذي يحمد من الاستبشار بالطاعات والفرح بها إنما هو ما كان أثراً عن محبة العبد لربه، لا ما كان بسبب أن للنفس حظاً من تلك العبادة.
مثال ذلك: من يحب مجالس الخير ويفرح بها. تلك المجالس التي قال فيها النبي r: «قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ»([1]) ونحو هذا من الأحاديث، فمن كان يحب تلك المجالس ويحب أهلها؛ لأنها محبوبة إلى سبحانه فهذا هو المفلح الذي تنفعه محبته. أما من يحبها لما يجد فيها من أنس وتسلية، أو لمحبته أهلها حبا عاطفيا أو مزاجيا مجرداً، أو لما يجد فيها من أكل أو شرب أو نحو هذه المقاصد فشتان ما بينه وبين الأول.
لكن لا ينبغي أن يكون مخالطة شيء من حظوظ النفس للعبادة داعيا لترك تلك العبادة بحجة الخوف من عدم قبولها.
فهذا مزلق يحذر منه. وإنما الصواب أن تستكثر من العمل الصالح، وتجاهد نفسك في تكميل الإخلاص لله فيه.
بم يستقبل الشهر؟
بالسرور والاستبشار، وبنفس صافية تستقبل ما يرد عليها من غذاء الروح بالأعمال الصالحة، فليبادر إلى:
1-التوبة الصادقة، حيث إن الذنوب سبب حرمان العبد من خيري الدنيا والآخرة، قال تعالى: }وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{ [الشورى:30]، ولا مصيبة أعظم من الحرمان من الأعمال الصالحة. ولهذا – والله أعلم – شرع في كثير من الأعمال الصالحة استفتاحها بالاستغفار كدخول المسجد، وكالدخول في الصلاة: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب...»، وكخطبة الحاجة – في استفتاح خطبة الجمعة والعيدين وعقد النكاح وغيرها: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..). كما شرع – أيضا – ختمها بالاستغفار إظهارا للافتقار، وأن العبد مهما عمل فهو لا يزال في تقصير.
2-عقد العزم الصادق على اغتنامه وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة، فمن صدق الله صدقه وأعانه على الطاعة ويسر له سبل الخير، قال الله عز وجل: }فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ{[محمد: 21].
3-دعاء الله بالعون على الطاعة، فالله يقول: }وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{ [غافر:60] مثل أن يكرر هذا الدعاء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ويؤثر عن السلف أنهم كانوا يقولون إذا حضر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد، وأعذنا فيه من الفتن ([2]).
4-الاستكثار من الأعمال الصالحة عموماً، حتى تتهيأ النفس وتستعد، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ولعل هذا – والله أعلم – من حكم إكثار النبي r الصوم في شعبان. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله r استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان».
مسائل وتنبيهات
المسألة الأولى: تحقيق التعبد وتكميله:
لابد من تحقيق التعبد في الصيام وغيره من العبادات، وإلا أصبح عادة رتيبة، فليس للمرء من عمله إلا ما نوى، كما قال النبي r: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، فابحث عما يحقق تعبدك ويكمله بشروط التعبد كلها (المحبة والخوف والرجاء) من تلاوة القرآن بالتدبر، وتذكر فضل ما تعمل أو تترك، والتواصي بالحق وغير ذلك.
وللعمل مع النية أحوال:
*فالعبادة المباحة إذا قارنتها النية الحسنة أصبحت عبادة.
*والعبادة إذا خلت من النية أصبحت عادة.
*أما إذا خلت من النية الصالحة وحل محلها النية الفاسدة كقصد مراءاة المخلوقين ونحو ذلك أثم صاحبها، وخرجت عن حد العبادة في الباطن. والله أعلم.
وعلى أي الأحوال فليكن نظر المسلم هنا إلى ما يتحقق منه التعبد لله أكثر.
فإن رأى أن اعتماره أول الشهر أو وسطه أكمل في تعبده وأكثر؛ لإقباله على العبادة وأدعى لانشراح صدره إليها من أن يأتي أواخر الشهر فيجد عنتا عند دخول المسجد الحرام، وعند الخروج منه وعند الطواف، وعند إرادته ما لا بد له منه من اشتراء طعام أو قضاء حاجة أو نحو ذلك. فهذا لعل الأصلح له أن يعتمر أوائل الشهر.
أما من كان الاعتمار آخر الشهر أنفع له، كأن يكون سببا في ابتعاده عما اعتاده في بلده من الشواغل عن العبادة، أو أن يكون سببا في نشاطه في الطاعة إذا رأى كثرة الناس وإقبالهم على الطاعات ما بين طائف وتال وراكع وساجد، بحيث إنه لو كان في بلده لغلبه الكسل ولم ينشط على ما ينشط عليه هناك، فهذا لعل الأصلح له أن يكون اعتماره ومكثه ما يمكث في العشر الأواخر. والله تعالى أعلم.
ومما يدخل هنا أن بعض الناس تراه مصرا على أن يؤدي عمرته ليلة سبع وعشرين، أو على الأقل أن يطوف تلك الليلة مهما كان الزحام، وكأن العبادة أمر يؤدي فحسب.
بل ينبغي أن يحرص المسلم من العبادات على ما هو أحب إلى الله وأرضاها له سبحانه، فالعمل المفضول قد يصبح فاضلا لأسباب واعتبارات، منها: أن العبد حقق تعبده لله بذلك العمل أكثر من غيره من الأعمال.
ولنذكر أن الشيطان يسعى في إيقاع العبد في مصايده. وأول غاياته أن يوقعه في الكفر والشرك، فإن لم يستطع ذلك نقله من السنة إلى البدعة، فإن لم يستطع ذلك سعى في إيقاعه في الكبائر، وإلا ففي الصغائر فإن لم يستطع ذلك كله وكان من الأتقياء شغله بالمباحات عن المستحبات، ثم قال – رحمه الله باختصار:
(فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به، نقله إلى المرتبة السادسة: وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقلّ من يتنبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان. وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور قوي من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول r، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله r ولكتابه ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول r ) انتهى كلامه رحمه الله ([3]).
المسألة الثانية في قوله r«إيمانا واحتساباً».
قوله r: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» انظر كيف تكرر قوله r في الجمل الثلاث: «إيمانا واحتسابا»، وجعل قيدا لحصول ذلك الثواب العظيم: هو مغفرة ما تقدم من ذنبه.
ومعنى قوله: «إيماناً واحتساباً»: قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
ولنتفطن أن العبد إذا أدى العبادة إيمانا واحتسابا كانت سببا عظيما في زيادة إيمانه؛ فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإذا زاد إيمانه ازداد طاعة، وهكذا يتلازم الأمران، ويترقى في مدارج الكمال. ولهذا ترى من صام رمضان أو قامه إيماناً واحتسابا كلما تقدم الشهر ازداد نشاطا وطاعة، حتى إذا قربت نهاية الشهر وحضرت المواسم الثمينة، وإذا هو على أنشط ما يكون من العمل. أما من قصر في استصحاب الإيمان والاحتساب في صيامه رمضان وقيامه، فإنه يبدأ أول الشهر بحماس، ثم يقل نشاطه، ويتناقص حماسه كلما تقدم الشهر.
المسألة الثالثة: نداء لأئمة المساجد ودعاة الخير:
حيث إن هذا الشهر العظيم تصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، فضلا من الله ومنة على عباده، ولذا فترى الناس أحرص على الخير، وأبعد عن الشر منهم فيما سواه. من أجل هذا حري بالداعين إلى الله أن يستفيدوا من هذا الظرف ويغتنموا هذه الفرصة في تعليم الناس ما جهلوا، وتذكيرهم ما نسوا.
وأشكال ذلك متعددة، فمنها: اختيار الدروس المناسبة لقراءتها على الجماعة في المساجد في الأوقات المناسبة كالوقت بعد صلاة العصر، وقبل صلاة العشاء، أو غيرها مما يناسب ومما قد يختلف من ناس إلى ناس، ومنها: مساعدة إمام المسجد في تلك الدروس المشار إليها، أو تحملها عنه، فبعض الأئمة قد لا يتوفر لديه الوقت لاختيار ما يناسب الناس، وبعضهم قد يشق عليه الجمع بين القراءة في الصلاة والتحديث على الجماعة ... إلى غير ذلك من الأعذار، فليبادر طلبة العلم إلى اغتنام هذه الفرص وليعلموا أن عليهم واجبات فليؤدوها، وأمانات فليقوموا بها.
ومنها: إفادة الأهل والأقارب، وفي الحديث عنه r قال: «خيركم خيركم لأهله»([4]).
وإنه لمن الغفلة أن يهتم المرء بالناس بإرشادهم ودعوتهم، وينسى أقرب الناس إليه وأحقهم ببره، وأعجب من هذا من يكون اهتمامه بغيره على حساب نفسه.
المسألة الرابعة: تقديم الفرض على النفل:
في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: «وما تقربي إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه»([5]) ويدخل في هذه المسألة الحرص على فريضة العشاء أكثر من صلاة التراويح: في تبكيره، وطمأنينته فيها، وتدبره القراءة فيها، وغير ذلك دون تقصير أو نقص من شأن صلاة التراويح.
كما يدخل في هذه المسألة: تدبر الفاتحة – في الفرض والنفل – والاهتمام بها أكثر مما سواها، إذ هي ركن وما سواها من القراءة مستحب.
المسألة الخامسة: في الوتر والقنوت:
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله r يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» ([6])، وبعض الأئمة يواصل قراءته في الركعتين اللتين قبل الوتر بما كان يقرأ به أول صلاته، فأحيانا لا يشعر بعض المصلين إلا وهو في الوتر.
أي أن المصلي دخل في صلاته بغير نية الوتر، والنافلة المعينة لابد لها من نية تعينها بخلاف التنفل المطلق فيكفي فيه مجرد نية الصلاة، فلعل الأولى هنا – بعد عن التلبيس على المصلي في صلاته – أن يقرأ ولو بـ (قل يا أيها الكافرون) في الركعة الأخيرة قبل الوتر حتى يعلم المأموم أن تلك التي تليها هي الوتر. ومثل هذا أن بعض الأئمة يوتر أحيانا بثلاث (يعني بسلام واحد)، وعادته أن يوتر بواحدة فيدخل المصلي في صلاته هذه على أنها شفع، ثم لا يدري إلا والإمام قد صلاها وترا بسلام واحد.
فهنا لعل الأولى أن يشعر الإمام المأمومين أنه سيوتر بثلاث. والله أعلم.
أما فيما يتعلق بالقنوت في الوتر فهنا تنبيهات:
1-بعض الأئمة يطيل في الدعاء طولاً قد يشق على المصلين أو على بعضهم، ومن العجب أنك قد ترى من الأئمة من يسرع في قراءته ويهذها هذا، فإذا ما دعا تأني كرر الدعاء وأطال فيه.
فلأن يعتدل في الدعاء وينصرف المصلي راغبا في المزيد من الدعاء، خير من أن يؤدي ببعض المصلين إلى شيء من السأم والملل، إلا أن يتحرى مناسبة، كليلة يرجو أن تكون هي ليلة القدر، أو ساعة رقت فيها القلوب، ونحو ذلك. والله أعلم.
2-يحسن بالداعي أن يدعو بالمأثور، فهذا:
(أ) أقرب إلى السنة وأقرب إلى الاتباع.
(ب) أجمع للخير وأدفع للشر، فإن النبي r قد أوتي جوامع الدعاء.
(ج) أسلم من أن يزل لسانه إلى معنى لم يكن يقصده، أو أن يدعو بما يظنه خيرا وهو ليس كذلك.
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله r عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله rهل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فجعله لي في الدنيا. فقال رسول الله r: «سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسن وقنا عذاب النار. قال: فدعا الله له فشفاه»([7]).
(د) كما أن الأدعية المأثورة أكثر تحقيقاً للعبودية مما سواها. حتى ولو كان الناس يتأثرون بتلك الأدعية المنشأة أكثر من تأثرهم بالأدعية الواردة، وعن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله r يقول: «يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور»([8]).
المسألة السادسة: في اغتنام ساعات ثمينة يكثر التفريط فيها:
هناك ثلاث ساعات ثمينة يكثر التفريط فيها: وهي أول ساعة من النهار (بعد صلاة الفجر)، وآخر ساعة من النهار، ووقت السحر. أما أول ساعة من النهار فتفوت غالبا بالنوم، وأما آخر ساعة من النهار فبالانشغال بإعداد الإفطار والتهيؤ له، وساعة السحر تفوت أحياناً بطول الانشغال بالسحور.
هذه أوقات فاضلة. قال ابن رجب رحمه الله في (المحجة في سير الدلجة) في سحر قول النبي r: «استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»: يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تكون أوقات السير إلى الله بالطاعات، وهي آخر الليل وأول النهار وآخره، وقد ذكر الله هذه الأوقات في قوله تعالى: }وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى{ [طه:130]، وقال تعالى: }وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ{ [ق:39-40].
وذكر الله تعالى الذكر في طرفي النهار في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا{ [الأحزاب:41-42]، وقال تعالى: }وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{ [الإنعام: 52]، وقال تعالى في ذكر زكريا عليه السلام: }فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا{ [مريم: 11]. وقال تعالى: }فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ{ [غافر: 55].
فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان – وهما أول النهار وآخره – يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب وعمل تطوع. فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة، وأما عمل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وقد وردت في فضله نصوص كثيرة، وكذلك وردت النصوص الكثيرة في أذكار الصباح والمساء، وفي فضل من ذكر الله حين يصبح وحين يمسي.
(وكان السلف لآخر النهار اشد تعظيما من أوله، وأيضا فيوم الجمعة آخره أفضل من أوله؛ لما يرجى في آخره من ساعة الإجابة، ويم عرفة آخره أفضل من أوله لأنه وقت الوقوف، وكذلك آخر الليل أفضل من أوله. كذا قال السلف واستدلوا بحديث النزول الإلهي)([9]) انتهى.
القارئ الحسن الصوت
إن الصوت الحسن مما يعين على التدبر، وقد قال النبي r لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة. لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود»([10]) وقد أورد ابن كثير رحمه الله في فضائل القرآن عن ابن ماجه بسند قال – أي ابن كثير – إنه جيد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أبطأت على رسول الله ذات ليلة بعد العشاء ثم جئت، فقال: أين كنت؟ قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك لم اسمع مثل قراءته وصوته من أحد. قالت: فقام فقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إلى فقال: «هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا». وقال ابن كثيرا أيضاً. وروى أبو عبيد – وساق إسناده – عن أبي سلمة قال: كان عمر رضي الله عنه إذا رأى أبا موسى رضي الله عنه قال؛ ذكرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده ([11]) لكن هنا أمور ينتبه لها:
أحدها: ألا يكون المقصد: الصوت ذاته؛ بل يجب أن يكون حسن الصوت معينا ومساعدا على التدبر، قال الله تبارك وتعالى: }كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ{ [ص:29].
ولعل مما تستطيع أن تميز به بين كون استلذاذك بصوت القارئ أو هو بما يقرؤه من كلام الله: ألا يرتبط الإقبال والتدبر بحسن الصوت، بحيث إذا لم يحصل لم يكن إقبال ولا تدبر لما يتلى. والواجب استماع القرآن وتدبره، لكن حسن الصوت يزيد من ذلك التدبر ويساعد عليه.
وهناك أمر آخر مهم، وهو أنه كما يحرص على الحسن الصوت فكذلك فليحرص على من يرجى فيه التقوى والصلاح أكثر من غيره، ومن هو أبعد عن التكلف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» [متفق عليه]. قال ابن كثير رحمه الله: (معناه أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها. وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك...، والأذن: الاستماع) انتهى كلامه رحمه الله ([12]).