فضل العلم وأهميته
العلم أصل كلِّ شيء، يحرِّر العقول من القيود، يحرِّر العقول من الأوهام، يُدِير حركة الإنتاج، يُدِير عجلة النهضة، يَقضِي على الكساد والفساد، يقضي على أمنيات الشيطان، أساس كل عبادة؛ فلا يمكن أن نصلِّي دون علم، فالصلاة تحتاج إلى عالِم يعلِّمنا كيف صلَّى رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - وما يقال فيها وأركانها، ولا يمكن الصيام دون علم، فلا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا جهاد، ولا حج دون علم؛ فالعلم هو الأساس؛ لأن كل شيء يُبنَى عليه، ولكن الإشكالية هنا في العلماء الذين يأخذون فروعَ العلم، ويتركون الأصول؛ فيحدث هدمٌ في الدين؛ لأن بناءه غيرُ مكتمل، فالدين مبني على الأصول والفروع، وعلى ذلك فالعلماء أنواع: منهم الربانيون، وهم المخلصون، ومنهم المخرِّبون يستخدمون علمهم في هدم الدين، وهم أصحاب القلوب الضعيفة، ينظرون إلى العلم على أنه وسيلة للشهرة والنفوذ وجمع المال، ومنهم العلماء السطحيون يأخذون قشور العلم، فيعلِّمون الناس علمًا ناقصًا؛ فتقع مصائب باسم الدين، كما يحدث الآن من قتل للأبرياء، ويتوهم قاتلوهم أنهم على حق، ويرضون الله - تعالى - وهذا ما حدث في قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأيضًا قتل الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وما حدث من فتنٍ كانتْ سببًا في حدوث انشقاقات بين المسلمين مزَّقت الأمة إلى فتات؛ فاستغلها الغرب واليهود، وانتصروا علينا؛ لأنهم لم يجدوا أمة قوية تواجههم، وعلى ذلك؛ فإن العلم لا يؤخذ إلا من العلماء الربانيين؛ حتى لا تحدث فتن وفوضى بسبب أنصاف العلماء، فالعلم الصحيح يأخذنا إلى النصر، فلا نصر بدون علم.
أعداؤنا هزمونا بالعلم؛ فقد وصلوا إلى اختراعات ساعدتْهم في كسر شوكتنا، فالعلم الدنيوي أوصلهم إلى النصر؛ فما بالنا بالعلم الشرعي الذي أُنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله - تعالى - الذي يعلم طبيعة خلقه، ويعلم ما يفيده، وما يضره، وما يوصله إلى الخير؟! ومن الخير أن تنتصر على عدوك، فشريعة الله سبيل إلى النصر، ولكن تحتاج إلى مَن ينقلها بإخلاص وبفقه، فالفقهُ مطلوب من العلماء، فالعالم الفقيه خيرٌ من الذي يعلم بدون فقه، وقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كيف بكم إذا كثر قرَّاؤكم، وقلَّ فقهاؤكم؟!"، فالعلم حصنٌ للدين، فلا دين بدون علم، فلكل منزلٍ جدران تحصنه من السرقة، وتحصنه من دخول الغرباء، وتحصنه من نظر أصحاب القلوب الضعيفة الذين يَسْعَون لمعرفة ما بداخل بيوت الناس للحديث في أعراضهم، وكذلك العلم يحصِّن الدين من الغرباء والجهلاء وقاطعي الطريق.
فالنصر على اليهود - ومَن عاونهم من أعداء الإسلام - لن يأتي إلا بعلم، نعمل به على جمع قُوَانا التي فرَّطنا فيها، وتنازلنا عن وحدتنا التي قطعتْها أفكار الجهلاء وعلم المنافقين.
وللأسف فإن الشعوب المسلمة اهتمَّت بأعراض من الدنيا لا تُسمِن ولا تُغنِي من جوع، وتركتِ العلم يمحى من أهدافه؛ فوقعتْ في مستنقع الرذيلة والجهل؛ فوصلوا إلى مرحلة متأخرة يصعب العودة منها إلا بنور العلم، والُمحِزن أن المسلمين اهتموا بتعليم أولادهم علوم الدنيا - كاللغات الأجنبية وغيرها - على حساب العلم الشرعي، الذي به تستقيم الحياة؛ فكلما ابتعدوا عن العلم الشرعي ابتعدوا عن دينهم، فيترتب على ذلك الابتعادُ عن حماية الإسلام، فنرى الإسلام يهان ولا تتحرك القلوب؛ لأن القلوب لا تعرف شيئًا عن الدين؛ لأنهم لا يعلمون إلا علوم الدنيا؛ فاهتموا بالدنيا، وتركوا علوم الآخرة، فتركوا الآخرة مع أن الآخرة هي الباقية، قال - تعالى -: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، وعلى ذلك ابتعدنا عن الله - تعالى - فتَرَكَنا الله - تعالى - وسط أمم الغرب التي تقطع أواصرنا، وتقطع وحدتنا؛ فرمت ثقافتها الضالة لتندمج مع ثقافتنا، ومن ثَمَّ تمحوها لتهزمنا في عقولنا، ومن ثم تتحكم في حياتنا، حتى إذا جاؤوا بجيوشهم فتحْنا بلادنا لهم، واستقبلْناهم بالورود والأغاني!
إن الأمر خطير جد خطير، وهذا لا يعني ألاَّ نهتم بعلوم الدنيا، بل الأولى أن نهتم بالعلم الشرعي، ثم العلم الدنيوي؛ لأن الشرع هو الأصل، وقد زاد الطين بِلة عندما نرى المسلمين في غياهِب الظلمات، وذلك عندما نجدُهم يرفعون الفسَّاق - من نجوم الفن - فوق الأعناق، وعلى شاكلة ذلك نجوم الكرة، فإذا سألتَ شخصًا وقلت له: مَن هو أسوتك؟ يجيب قائلاً: الممثل الفلاني، أو اللاعب الفلاني؛ فهي إجابة تؤكِّد على أننا انهزمنا بالفعل، فلا نرى مَن يقول: أسوتي العالِم الفلاني، فاهتمَّت الأمة بالتافهين؛ فأصبحت تافهة، لا وزنَ لها أمام الأمم الأخرى، فانهزمنا بأيدينا أولاً قبل أيدي أعدائنا.
إن العلم هو السلاح القوي الذي يعيد لنا ديننا وأرضنا وثقافتنا وعزَّتنا، العلم أرضٌ خصبة لإنباتِ رجال يعرفون ما لهم وما عليهم، من خلال أحكامٍ، وحدودٍ، وأوامرَ، ونواهٍ، هؤلاء الرجال سيكونون قادرين على تغيير هذا الواقع الأليم، وإعادة الانتصارات من جديد؛ كما كان الإسلام أيام العزة، هؤلاء الرجال لديهم القدرة على مواجهة الأفكار الفاسدة، والثقافات الضالة التي تأتي من الأعداء من خلال العلم الصحيح الذي يساعد على تصحيح العقول الفاسدة، وهداية القلوب الضالة، ويمد الإنسان بدلائل الخير والإرشاد، ويفتح لنا مجالات النعيم في الدنيا قبل الآخرة، ويعيننا على قضاء حوائجنا دون إفراط أو تفريط، ويوجِّهنا إلى الطريق المستقيم والقوة المستديمة، ويكشف الحقائق الزائفة للمتكلمين والذين يدَّعون بأن الدين لا يتناسب مع الواقع، ويزعمون أن العقيدة السليمة لا تأتي إلا من العقل والمنطق والمصلحة.
وعلى ذلك كله، فإن العلم هو السبيل لمآربِنا، والتاريخُ خيرُ شاهد على ذلك؛ فعندما كان الإسلام يطبَّق على أرض الواقع حقيقةً لا شعارًا؛ كنا أعز الأمم وأقواها وأشرفها، وكان الأعداء يُغِيرون علينا بكل ما أُوتُوا من قوة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحققوا ذرة من أهدافهم؛ فكانوا يحاربوننا بالسيوف والعَتَاد والعُدَّة، ولكن كانوا ينهزمون شر هزيمة، فلم يجدوا إلا العلم ليكون وسيلة لتحقيق مآربهم، وللأسف تحقَّقت بعد أن ضيَّعنا العلم من أيدينا باهتمامنا بتفاهاتٍ وأمورٍ ما أنزل الله -تعالى- بها من سلطان؛ فالعودة إلى الأمجاد لن تأتي إلا بالاهتمام بالعلم الشرعي أولاً، ومن ثَمَّ العلم الدنيوي، وهذا يأتي من خلال رجال مخلصين يأخذون العلم الصحيح كما أنزل، ويقدمونه لطلاب العلم وللأمة بإخلاص؛ لبناء أمة قادرة على مواجهة الشدائد والصعاب والأخطار، ويجاهدون بعلمهم في نصر دينهم؛ لأنه "لا فرق بين المجاهد الذي يسوي خلل قوسه، وبين طالب العلم الذي يستخرج المسائل العلمية من بطون الكتب؛ فكل منهما يعمل للجهاد في سبيل الله، وبيان شريعة الله لعباد الله، بل إن بعض العلماء فضَّله على الجهاد في سبيل الله، والصحيح أن في ذلك تفصيلاً؛ فمن الناس مَن يكون الجهاد في حقه أفضل، ومن الناس مَن يكون طلب العلم في حقه أفضل، فإذا كان الرجل قويًّا شجاعًا مقدامًا، لكنه في العلم بضاعته مُزْجَاة، قليل الحفظ، قليل الفهم، يصعب عليه تلقي العلم؛ فهنا نقول: الجهاد في حقه أفضل، وإذا كان - بالعكس - رجل ليس عنده تلك القوة البدنية، أو الشجاعة القلبية، لكنَّ عنده حفظًا وفهمًا واجتهادًا؛ فهذا طلب العلم في حقه أفضل، فإن تساوى الأمران؛ فإن من أهل العلم مَن رجَّح طلب العلم؛ لأنه أصل، ولأنه ينتفع به الناس كلهم - القاصي والداني - وينتفع به مَن كان حيًّا ومَن يُولَد بعدُ، وينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وجميع الناس محتاجون للعلم، الأنبياء وغير الأنبياء كلهم محتاجون للعلم؛ ولهذا أمر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]؛ فالرسلُ محتاجون إلى العلم والزيادة فيه، وإلى سؤال الله - عز وجل - أن يزيدهم منه، فمن دون الأنبياء من باب أولى"[1].
فالعلم يحتاج إلى صبر ومشقة ومجاهدة نفس، وكل ذلك مثل الجهاد، وبالرغم من كل هذه المشقة إلا أننا نجد أفضل العلماء خرجوا من رَحِم هذه المشقة؛ فكلما زادت مشقتهم زاد علمهم، أما لو جاء العلم سهلاً ميسرًا بدون تعب ووصب؛ لذهب سهلاً بدون تعب ووصب؛ فكما يقول الناس: "الشيء الذي يجيء سهلاً، يذهب سهلاً"؛ فلذلك الإمام البخاري - رحمه الله - بدأ كتاب العلم بذكر باب فضل العلم؛ لأن العلم واسع، ومضنٍ وشاقٌّ ليس بسهل، وتحرير محل النزاع في كثير من المسائل يحتاج إلى صبر بالغ، فتبليغ العلم للناس، والصبرُ على أذاهم ومخالفاتهم، وعلى بلادة المجتمع أحيانًا، كل هذا يحتاج إلى صبر، وتبليغ العلم مع كثرة المناوئين لك، وكثرة الأسفار والترحال، كل هذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى مجهود كبير، فلا يدخل فيه إلا مَن يعلم قدره.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/culture/0/49868/#ixzz36j83p3f5