الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, وبعد :
فلا
يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع شرع الله ورسوله, والنهي عن
الابتداع في الدين , قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله ويغفر لكم ذنوبكم ) آل عمران/31 , وقال تعالى : ( اتبعوا ما أنزل
إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ) الأعراف/3,
وقال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ) الأنعام/ 153, وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصدق الحديث
كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها ) . وقال صلى الله
عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ). رواه البخاري رقم
2697, ومسلم رقم 1718. وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا
فهو رد ) .
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولود النبوي في شهر ربيع الأول , وهم في هذا الاحتفال على أنواع :
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تُقرأ فيه قصة المولد , أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك , ويقدمه لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد , ومنهم من يقيمه في البيوت .
ومنهم
من لا يقتصر على ما ذكر , فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات
من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء , أو أعمال شركية كالاستغاثة
بالرسول صلى الله عليه وسلم وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك.
وهو
بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة
محرمة محدثة أحدثها الشيعة الفاطميون بعد القرون الثلاثة المفضلة لإفساد
دين المسلمين . وأول من أظهره بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك
إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري , كما ذكره المؤرخون
كابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين , وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال
الحافظ ابن كثير في (البدية والنهاية : 13/137) في ترجمة أبي سعيد كزكبوري
: (وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاٌ هائلاً ..
إلى أن قال : قال البسط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان
يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي , وعشرة آلاف دجاجة , ومائة ألف
زبدية , وثلاثين صحن حلوى .. إلى أن قال : ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر
إلى الفجر ويرقض بنفسه معهم.
وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان :
3/274) : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة
المتجملة , وقعد في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب
الملاهي , ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها
جوقاً .
وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا
التفرج والدوران عليهم ... " إلى أن قال : ( فإذا كان قبل المولد بيومين
أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف ، وزفها بجميع
ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي ، حتى يأتي بها إلى الميدان ... " إلى
أن قال : " فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في
القلعة ".
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد ،
حدث متأخراً ومقترنأً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما
أنزل الله بها من سلطان .
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع ، وألا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه .
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي :
الاحتفال بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع ومردود من عدة وجوه :
أولاً
: أنه لم يكن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من سنة خلفائه . وما
كان كذلك فهو من البدع الممنوعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )
أخرجه أحمد 4/126 ، والترمذي برقم 2676 .
والاحتفال بالمولد محدث
أحدثه الشيعة الفاطميون بعد القرون المفضلة لإفساد دين المسلمين . ومن فعل
شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم
يأمر به ، ولم يفعله خلفاؤه من بعده ، فقد تضمن فعله اتهام الرسول بأنه لم
يبين للناس دينهم ، وتكذيب قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم )
المائدة/3 لأنه جاء بزيادة يزعم أنها من الدين ولم يأت بها الرسول صلى الله
عليه وسلم .
ثانياً : في الاحتفال بذكرى المولد تشبه بالنصارى ،
لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه السلام والتشبه بهم محرم أشد التحريم
، ففي الحديث النهي عن التشبه بالكفار ، والأمر بمخالفتهم ، ففد قال صلى
الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) أخرجه أحمد 2/50 ، وأبو داود
4/314 ، وقال : ( خالفوا المشركين ) أخرجه مسلم 1/222 رقم 259 ، ولا سيما
فيما هو من شعائر دينهم .
ثالثاً : أن الاحتفال بذكرى مولد الرسول
مع كونه بدعة وتشبهاُ بالنصارى وكل منهما محرم فهو كذلك وسيلة إلى الغلو
والمبالغة في تعظيمه حتى يفضي إلى دعائه والاستعانة به من دون الله ، كما
هو الواقع الآن من كثير ممن يحييون بدعة المولد ، من دعاء الرسول من دون
الله ، وطلب المدد منه ، وإنشاد القصائد الشركية في مدحه كقصيدة البردة
وغيرها ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه فقال : ( لا تطروني
كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله )
أخرجه البخاري 4/142 رقم 3445 ، الفتح 6/551 ، أي لا تغلوا في مدحي وتعظيمي
كما غلت النصارى في مدح المسيح وتعظيمه حتى عبدوه من دون الله ، وقد نهاهم
الله عن ذلك بقوله : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على
الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم
وروح منه ) النساء/171
ونهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغلو
خشية أن يصيبنا ما أصابهم ، فقال : ( إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان
قبلكم الغلو ) أخرجه النسائي 5/268 ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي
رقم 2863 .
رابعاً : إن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع الأخرى
والاشتغال بها عن السنن ، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع
ويكسلون عن السنن ويبغضونها ويعادون أهلها ، حتى صار دينهم كله ذكريات
بدعية وموالد ، وانقسموا إلى فرق كل فرقة تحيي ذكرى موالد أئمتها ، كمولد
البدوي وابن عربي والدسوقي والشاذلي ، وهكذا لا يفرغون من مولد إلا يشتغلون
بآخر ، ونتج عن ذلك الغلو بهؤلاء الموتى وبغيرهم ودعائهم من دون الله ،
واعتقادهم أنهم ينفعون ويضرون حتى انسلخوا من دين الله وعادوا إلى دين أهل
الجاهلية الذين قال الله فيهم : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا
ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) يونس/18 ، وقال تعالى : ( والذين
اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الزمر/3
مناقشة شبه مقيمي المولد :
هذا ، وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيوت العنكبوت ، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم :
والجواب
عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره
واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم ، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات
والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية ،
وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم ،
كما قال عروة بن مسعود لقريش : ( أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت
على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم
أصحاب محمد محمداًُ صلى الله عليه وسلم ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في
كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ
كادوا يقتتلون على وضوءه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون
النظر إليه تعظيماً له ) البخاري 3/178 رقم 2731 ، 2732 ، الفتح : 5/388 ،
ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً
ما تركوه .
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان :
والجواب
عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثابت
عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً ، وهذا منها ، وعمل
الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا : ( وإن تطع أكثر من في الأرض
يضلوك عن سبيل الله ) الأنعام/116 ، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من
ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها ، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد
ما تبين له الحق .
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام
ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " ، والإمام الشاطبي في " الاعتصام "
، وابن الحاج في " المدخل " ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألّف في
إنكاره كتاباً مستقلاً ، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "
صيانة الإنسان " ، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة ، والشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة ، وسماحة الشيخ عبد العزيز
بن باز ، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في
صفحات الجرائد والمجلات ، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3- يقولون : إن في إقامة المولد إحياءً لذكرى النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب
عن ذلك أن نقول : إن ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم تتجدد مع المسلم ،
ويرتبط بها المسلم لكما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الآذان والإقامة
والخطب ، وكلما ردد المسلم الشهاتين بعد الوضوء وفي الصلوات ، وكلما صلى
على النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته وعند ذكره ، وكلما عمل المسلم
عملاً صالحاً واجباً أو مستحباً مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه
بذلك يتذكره ويصل إليه في الأجر مثل أجر العامل .. وهكذا المسلم دائماً
يحيي ذكرى الرسول ويرتبط به في الليل والنهار طوال عمره بما شرعه الله ، لا
في يوم المولد فقط وبما هو بدعة ومخالفة لسنته ، فإن ذلك يبعد عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ويتبرأ منه .
والرسول صلى الله عليه وسلم غني
عن هذا الاحتفال البدعي بما شرعه الله له من تعظيمه وتوقيره كما في قوله
تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) الشرح/4 ، فلا يذكر الله عز وجل في أذان ولا
إقامة ولا خطبة وإلا يذكر بعده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك
تعظيماً ومحبة وتجديداُ لذكراه وحثاً على اتباعه .
والله سبحانه
وتعالى لم ينوه في القرآن بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما نوه
ببعثته ، فقال : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم )
آل عمران/164 ، وقال : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ) الجمعة/2
4- وقد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم ، قصد به التقرب إلى الله !
والجواب
عن ذلك أن نقول : البدعة لا تُقبل من أي أحد كان ، وحُسن القصد لا يُسوغ
العمل السيئ ، وموته عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته .
5- قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم !
ويجاب
عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697 ،
الفتح 5/355 ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( فإن كل بدعة ضلالة ) أخرجه
أحمد 4/126 ، والترمذي رقم 2676 ، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة ، وهذا
يقول : ليس كل بدعة ضلالة ، بل هناك بدعة حسنة .