ان الجدل الدائر حول العـروبة والاسلام قديم قدم المشكل ، وسوف لن ينته مادامت امة العـرب مجزأة .. مقطعة الاوصال .. رغم ما يثيره الجاهلون بالقومية والاسلام من معارك جانبية كانت ولا تزال سببا في تأخر العرب والمسلمين على حد السواء .. لان هؤلاء لم يفهموا الى حد الآن ان العـرب هم الذيـن نشروا الاسلام الى العالم من قـبل أن يصيروا أمة .. وسيظـلون حاملين لواءه الى يوم القيامة ..
ولعلهم لو كفوا عـن الجدل العقـيم حول العـروبة والاسلام ، لانـتهـى الامر في هذه الامة لما فـيه الخـيـر للعـرب والمسلمين .. فمن ذا الذي سيأتي مثلا بعد توحيدها ليتحدث عن التجزئة والوحدة ان كانت عـربية أو اسلامية ؟
لا شك انه سيكون امرا غـريبا و غـير مفهوم على الاطلاق ، وانه سيثير السخرية من غـير شك .. في حين سيبقى العمل الاسلامي متواصلا دون انقطاع طالما ان الاسلام دين يتجاوز قيود الزمان و المكان ..
اما الغـريب فعـلا في أيامنا ، أن " يظهـر " لنا رجال الديـن " العارفين وحدهم بالدين "، مشكّـكـيـن في الدعوة الى الوحدة العـربية باعـتبار انها مستـندة على خلفية قومية ، ثم يطـرحون بديلا عـنها الدعوة للوحدة الاسلامية .. و هي لعمري دعوى جاهلة وغـبية وفاشلة في أن واحد ..
جاهلة ليس لانها تدعو لوحدة المسلمين ، بل لانها تتجاهل العوامل الموضوعـية التي تساعد أو تعـيق الوحدة ، و لا تعطي اهتماما للاولويات .. اذ أننا حتى لو سلمنا بفكرة الوحدة الاسلامية فاننا لا يجب ان نرفض فكرة وحدة العـرب باعتبار أنهم مسلمون من ناحية ، ثم ان عوامل توحيدهم قائمة باعتبار العوامل النفسية واللغوية والحضارية من ناحـية ثانية ..
و هي غـبية لان مناهضة الدعوة الى الوحدة القومية هي في نهاية المطاف خطوة تعـيق تقدم العـرب الذين يمكن أن يحققوا - بتقدمهم كأمة مسلمة موحدة - خدمة كبيرة للاسلام كدين في مشارق الارض و مغاربها ..
ثم انها دعوة فاشلة لانها ليست قائمة على اسس موضوعـية ، بل مبنية على ردود فعل انفعالية تجاه الفكـر القومي وهم لا يلتفـتون الى حقـيقة الوجود القومي كواقع لم ينشأ اعتباطا أوعـبثا .. وقد حاولت روسيا تجاهله من قـبل حين ضمّت أمما مختلفة و عمدت لتوحيدها قصرا ، فلم تفلح في الغاء وجودها القومي رغم كل المحاولات التي بُـذلت ، لان ما صـنعه التاريخ وقوانين التطوّر والسنن الالهـية لن يتغـيّـر بالامنيات أو الرغـبات العاطفية البعـيدة كل البعد عـن أي اساس واقعي .. وقد كان ممكنا نجاح التجربة الروسية في توحيد قوميات مختلفة لو جعلتها تتفاعل في ظـروف ملائمة تؤدّي الى القبول بالتعايش والانصهار التدريجي في ظل الديمقراطية والمساواة .. و لعـل اغلب رجال الدين المناهضين للفكرة القومية يستـندون في رفضهم على اساس يسلمون به ، وهو أن مواقفهم مستـندة على فهمهم للدين حتى وهم يجـتهدون في مسائل الدنيا .. وباعتبار أنهم العارفين " وحدهم "بكل اسراره ، من اول تاريخ الاديان ، الى السيرة النبوية ، مرورا بسيرة الصحابة ، الى علم اللغة وصولا الى آخر فـروع العلوم الدينية ومرتكـزاتها كعلوم القرآن وعلوم الفقه والحديث و اسباب النزول الخ .. بل هم من حفظ القرآن والحديث صحيحه وضعيفه .. وهم من عرف الاسانيد والطبقات و رجالها ، كما عرفوا ما قاله التابعون وتابعو التابعـين ، واستوعبوا القياس و الاجماع الخ ... !! فماذا ينقص هؤلاء الشيوخ والعلماء المجتهدين بعد هذا اذن ؟
ما ينقصهم فعلا هو الموازنة بين علوم الدين وعلوم الدنيا ... اذ هم في الغالب يغـلـّـبون علوم الدين ولا يهتمون بعـلوم الدنيا ، فتاتي آراؤهم الدنوية في اغـلبها غـيـر صائبة ، وغـيـر موضوعـية ، فيضللون الناس ولو بحسن نية باجتهاداتهم الخاطئة ، لكن الماسئل المصيرية ليست متروكة للصدفة او لحسن النية ، وهذا في أفضل الحالات ، أي اذا سلـّـمنا قطعا بأن ما يقولونه في تلك الاجتهادات المتعـلّقة بالدين ترتقي فعلا الى مرتبة العلم ، وهي مسألة ثانية فيها نظر ..
أماّ من النواحي الدنوية فهم اذا ذُكرت القومية انكروها واستـنكروها ، دون برهان علمي ، واذا ذُكـر الفكر القومي ، لا يعـرفون منه الا ما قاله الاربيون او ما يروّج من خلال التجاذبات السياسية والصراعات على السلطة .. ثم ان اغلبهم أو جميعهم لايعـرفون الاضافات الجوهـرية ، والمفاهيم العميقة ، بل الثورة العلمية التي شهدها الفكر القومي خلال العـقود الاخـيـرة ... وهم أيضا إذا أرجعوا المسالة الى حكم الدين وخاصة الاسلام ، ظهـر خلطهم وتخبطهم .. اذ تجدهم يخلطون بين وضع الانسان الاجتماعي حيث تربطه علاقات متداخلة لا حصر لها بمن يعيش معهم ، في وضع انساني نشأ منذ آلاف السنين قـبل ان يأتي الى الوجود أيّ دين ، ثم لم يستقر على ما هو عليه ، وبين الاسلام كدين أنشأ علاقات جديدة ذات أبعاد دينية واجتماعـية بعضها يقـتصر على المسلمين و بعضها الآخـر لا يقتصر عليهم وحدهم .. فكان الاسلام اضافة وليس الغاء أو انتقاص مما كان موجودا ..
اضافة لانه احدث وضعا ثوريا جديدا بكل المقاييس فغـيـر جميع ما هو موجود ..
و ليس الغاءا لانه لم يلغ البنى الاجتماعية السابقة القائمة على العلاقات الاسرية والعشائرية و القبلية بل جعلها تتطور ، كما لوكان قد دفعها دفعا الى ذلك من خلال الانتقال بنفس المكونات الى مراحل أكثر نمو وأكثر ارتقاء تحولت عـندما نضجت ظـروفها الى مجتمع قومي ... فهل هذا الوضع صنعه القوميون العرب الذين لم يظهـروا للوجود بشكل واضح الا بعد اكتمال الوجود القومي وتعـرّضه لموجات الغـزو الاستعماري الاروبي بالتوازي مع موجات التـتـريك ؟ أم أنه واقع صنعه المسلمون الفاتحون فعلا ، عندما خرجوا حاملين لواء الاسلام وتكـبّـدوا تلك التضحيات لنشر الدين الحق ، فوحّدوا شعوبا وقبائل لم تكن لتتـوحّـد تلقائيا وتتحول الى أمة واحدة لو لم يكن ذلك الجهد الخارق للمسلمين الاوائل ؟
لذلك ، فمن الضروري عندما يريد احد " علماء الدين " ان يدلي برأي - مجـرّد رأي – مهمّ ، له علاقة بمصير الناس ومستقبلهم مثل الوحدة العـربية ، يجـب عليه أن يدرك قبل كل شيئ أن رأيه ليس كأي رأي ، بل هو رأي مسموع ، حـتى وان كان من رجل دين ، غير ذي شهـرة ، لانه يكفي عـند عامة الناس ان يقف امامهم بلحـيته ، و عمامته وجلبابه ، ليكلمهم باسم الشيخ فلان ، حتى ينـتـقـل الموقـف من قدسية للدين الى قدسية للرأي في أذهان الناس البسطاء ، الطيبين ، المتمسكين بدينهم المخلصين الحنفاء .. قال تعالى : ﴿ وما أمروا إلا ليعـبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾( البينة / 5 ). ألا يقولون بأن " العالم " إذا أراد أن يجـتهد في مسائل تهم كل جوانب الدين من حلال ، و حرام ، و مباح ، ومكـروه ، ومندوب ، الى أكثر المسائل تعـقـيد ا كالميراث ، و البيع ، و الشراء ، والمعاملات ، جميعا ، وصولا الى كل ما يخطر على بال المسلم من الأحكام والشرائع ، المعـروفة او الممكن معـرفـتها من كتاب الله و سنة نبيه .. المحسومة منها أو الواقعة في دائرة الخلاف والاختلاف ، أي الاجـتهاد ، .. عـليه ان يتسلح بعـلوم الديـن .. ؟
بلا ..
ولهذا فان ذلك الشيخ اذا أراد أن يجـتهد في أمور الدنيا ، يجـب عـلـيه أن يتسلح بأسلحتها أيضا . وخاصة إذا كان موضوعا مصيـريا ، يتعلق بمصير أمة بأكملها ، و مستـقـبلها ، و مستقـبل أجيالها .. وهو ما يعـني ضرورة الإلمام بالتاريخ ، و الفلسفة ، و الاقـتصاد ، و علم الاجتماع وكل فـروع العلوم الحديثة ومناهجها ... أما إذا كانت مسالة الإلمام بعلوم الدين والدنيا هي مسالة لا يقدر عليها رجال الدين ، الا ينطبق عـليهم حينها قول الله تعالى : ﴿ فاسألوا أهل الذكـر إن كنتم لا تعلمون ﴾ . إذ أن في مسائل الدنيا يصبح أهل الذكـر هم المختصون في هذه المجالات ، و هم المؤرّخون وعلماء الاجتماع ، و الفلاسفة ، و عـلماء الاقـتصاد ، و كل المفكرين في جميع مجالات المعرفة ، دون اختفاء وراء المقدّس أو ادعاء بامتلاك الحلقيقة ..