السلام عليكم
اجمل واروع صور الوفاء في حياة رسولنا
لن تجد في كتب التاريخ والسير من فجر الخليقة إلى اليوم ـ بل إلى قيام
الساعة ـ رجلا يداني أو يضاهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كمال
خُلقه ، وعظمة شخصيته ، وباهر وفائه ، فهو خير البرية أقصاها وأدناها ، وهو
أبر بني الدنيا وأوفاها ، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة ، وأوفى
بوعد وعهدٍ منه - صلى الله عليه وسلم - .
ولم يتخلف وفاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأعدائه ، رغم أنهم بذلوا غاية
جهدهم للقضاء على دينه ودعوته ، وكادوا له ولصحابته ، فاعترفوا بفضله
ووفائه وهم في شدة عداوته ، فقال مكرز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما عُرِفتَ بالغدر صغيرا ولا كبيرا ، بل عُرِفتَ بالبر والوفا " . ولما
سأل هرقل أبا سفيان - وهو عدو لرسول الله حينئذ - : " أيغدر محمد ؟ ، فقال :
لا ، فقال هرقل : وكذلك الرسل لا تغدر ".
بعد الانتهاء من كتابة وثيقة صلح ومعاهدة الحديبية ـ والتي كان من بنودها :
" من جاء إلى المسلمين من قريش ليُسْلِم رده المسلمين إليهم "، جاء أبو
جندل بن سهيل بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ وهو في قيوده هاربا من المشركين في
مكة ، فقام إليه أبوه سهيل ـ مفاوض قريش ـ فضربه في وجهه ، وقال : هذا يا
محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ، فأعاده النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ للمشركين ، فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين أَأُرَد إلى المشركين
يفتنونني في ديني؟! ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنا عقدنا
بيننا وبين القوم عهدا، وإنا لا نغدر بهم ) ، ثم طمأنه النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ قائلا : ( يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن
معك فرجا ومخرجا ) رواه أحمد .
وعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : ما منعني أن أشهد بدراً إلا
أني خرجت أنا و أبي حسيل فأخذنا كفار قريش ، قالوا : إنكم تريدون محمدا ،
فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه
لننصرفن إلى المدينة ، ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبرناه الخبر ، فقال : ( انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله
عليهم ) رواه مسلم .
ومن صور وفائه - صلى الله عليه وسلم - ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ
قالت : ( ابتاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من رجل من الأعراب جزورا
بوسق من تمر الذخرة (العجوة) ، فرجع به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إلى بيته و التمس له التمر فلم يجده ، فخرج إليه رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ فقال له : " يا عبد الله ! إنا قد ابتعنا منك جزورا بوسق من تمر
الذخرة ، فالتمسناه فلم نجده )، قال : فقال الأعرابي : واغدراه ! قالت :
فهمَّ الناس وقالوا : قاتلك الله ، أيغدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
؟! قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( دعوه ، فإن لصاحب
الحق مقالا ) . ثم عاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( يا عبد
الله ! إنا ابتعنا منك جزائر و نحن نظن أن عندنا ما سمينا لك ، فالتمسناه
فلم نجده ) ، فقال الأعرابي : واغدراه ! فنهمه الناس و قالوا : قاتلك الله ،
أيغدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟!، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ : ( دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالا ) ، فردد رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ذلك مرتين أو ثلاثا ، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه
: ( اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها : رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ يقول لك : إن كان عندك وسق من تمر الذخرة فأسلفيناه حتى نؤديه إليك
إن شاء الله ، فذهب إليه الرجل ، ثم رجع فقال : قالت : نعم ، هو عندي يا
رسول الله ! فابعث من يقبضه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل
: اذهب به فأوفه الذي له ، قال : فذهب به فأوفاه الذي له .. قالت : فمرَّ
الأعرابي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في أصحابه فقال :
جزاك الله خيرا ، فقد أوفيت وأطيبت ، قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ : أولئك خيار عباد الله عند الله يوم القيامة ، الموفون
المطيبون ) رواه أحمد .
وعن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال : بعثتني قريش إلى
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ أُلقِيَ في قلبي الإسلام ، فقلت يا رسول الله : إني والله لا أرجع
إليهم أبدا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إني لا أخيس
(أنقض) بالعهد ، ولا أحبس البُرْدَ(الرسل) ، ولكن ارجع فإن كان في نفسك
الذي في نفسك الآن فارجع ، قال : فذهبت ، ثم أتيت النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ فأسلمت ) رواه أبو داود .
ومع أعباء الرسالة لم ينس ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين أجابوا دعوته
ووقفوا بجانبه ، وآزروه ونصروه ، فإلى آخر حياته يدعو لهم ، ويوصي بهم خيرا
، فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( احفظوني في أصحابي ) رواه ابن ماجه ، (
لا تسبوا أصحابي ) رواه البخاري ، ( من سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين ) رواه الطبراني .
فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيَّا لأصحابه جميعا .. ووفَّى لأبي بكر ـ
رضي الله عنه ـ ، فبين للأمة مكانته ومنزلته ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ
: ( ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ، ما خلا أبا بكر ، فإن له عندنا
يدا يكافيه الله بها يوم القيامة ) رواه الترمذي .
ووَّفَّى ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار مبايعتهم له ، ووقوفهم معه ،
فحينما خشي بعضهم إذا ظهر وانتصر أن يعود لقومه ويتركهم ، تبسم ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وقال : ( .. أنا منكم ، وأنتم مني، أحارب من حاربتم , وأسالم
من سالمتم ) ، وقال لهم : ( لو سلك الناس واديا أو شِعبا لسلكت واديكم
وشعبكم ، أنتم شعار، والناس دثار، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ثم
رفع يديه حتى إني لأرى ما تحت منكبيه ، فقال : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء
الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار! ، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير
وتذهبون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيوتكم ؟ ، فبكى القوم حتى
اخضلوا (ابتلت) لحاهم ، وانصرفوا وهم يقولون : رضينا بالله وبرسوله حظا
ونصيبا ) ، ثم أوصى بهم في مرض موته فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعَيبتي (بطانتي وخاصتي) ، وقد قضوا الذي
عليهم ، وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ) رواه
البخاري . والشعار: الثوب الذي يلي الجسد ، والدثار: الذي فوق الشعار.
بل وفَّى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه أبي طالب الذي رباه حتى بلغ أشده ،
وأعانه على إبلاغ دعوته ، فلما حضرته الوفاة ، ظهرت مشاعر وفاء النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ، فحرص كل الحرص على إنقاذه من الكفر ، وكاد أبو طالب
يستجيب لولا أن حال بينه وبين الهداية قرناء السوء ، حتى فارق الحياة على
مِلتهم .. فعن سعيد بن المسيب ـ رضي الله عنه ـ عن أبيه قال : ( لما حضرت
أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد عنده أبا جهل و
عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله ), فقال : أبو جهل و عبد
الله بن أبى أمية : حدثنا يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ? ، فلم يزل
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرضها عليه و يعيد له تلك المقالة، حتى
قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب , و أبَى أن يقول : لا
إله إلا الله , فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أما والله
لأستغفرن لك ما لم أنه عنك , فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا
أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ } (التوبة
3)
، و أنزل الله تعالى في أبى طالب : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
}(القصص:56) ) رواه البخاري ، ولما قال العباس ـ رضي الله عنه ـ للنبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ : ( ما أغنيت عن عمك ؟ ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ،
قال : هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) رواه
البخاري .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفياً مع زوجاته ، وجعل الميزان الذي يوزن به
خيرية المرء لأهله حسن معاملته لهم ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي .
وقد حفظ لخديجة ـ رضي الله عنها ـ مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها
الراجح ، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان
يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها ، ويحسن إلى صديقاتها ، وهذا كله
وفاءاً لها ـ رضي الله عنها - .
ومن وفائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رجح حق الوالدين على الهجرة إليه
والجهاد في سبيل الله ، وفاءً وبِرَّاً لهما ، فعن عبد الله بن عمرو بن
العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( أقبل رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال : فهل
من والديك أحد حي ؟ ، قال : نعم ، بل كلاهما حي، قال : أفتبتغي الأجر من
الله ؟ ، قال : نعم ، قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ) رواه البخاري
.
لقد كان لكل صنف من الناس نصيب من وفائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل تعدت صور وفائه حتى شملت الحيوان والجماد .
أسر العدو امرأة مسلمة ، وكانوا أصابوا من قبل ناقة لرسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ، فرأت المرأة من القوم غفلة ، فركبت ناقة رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ وهربت بها حتى أتت المسلمين ، وقالت : " إني نذرت أن
أنحرها إن نجاني الله بها "، فعجب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذه
المكافأة لمن كانت سببا في نجاتها ، وتبسم وقال : ( سبحان الله بئسما جزتها
، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها ! ، لا وفاء لنذر في معصية ولا
فيما لا يملك العبد ) رواه مسلم .
وهذا جذع شجرة لا يعقل ، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب عليه ، وفي يوم
الجمعة صعد منبرا صُنِع له ، وترك ذلك الجذع ، فصاح الجذع صياح الصبي حنينا
ـ إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي لمسة وصورة وفاء ، ينزل النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ويحتضنه ويضمه إليه حتى سكن ، ثم قال : ( أما والذي نفس
محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة ، حزنا على رسول الله
ـ صلى الله عليه و سلم ـ ، فأمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فدُفِن ) رواه الترمذي .
بل إن وفاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصل للحجارة الصماء ، فقال عن جبل أُحُد : ( هذا أحد يحبنا ونحبه ) رواه البخاري .
وفِّيَّ العهد ذو كرم وصدق شمائله السماحة والوفاء
هذه صورة من وفاء الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أَنْعِم به من خُلق كريم ،
تعددت مجالاته ، وتنوعت مظاهره ، حتى شمل الإنسان والحيوان والجماد ،
والعدو والصديق